إدمان العمل | عندما تخرج الأمور عن السيطرة

بصفتي طبيب؛ أضطر إلى التواجد بالعمل لساعات كثيرة، وهذا أمر اعتدت عليه، بل ولم يكن مشكلة يومًا.
إلى أن بدأت زوجتي تبدي انزعاجها وترى أنني لا أهتم إلا بعملي، ودائمًا تتهمني بأنني مقصر في حقها وحق الأولاد، وأرمي بالمسؤولية كاملة على عاتقها، وأنها لا تستطيع الاستمرار على هذا النمط.
أحب كوني طبيبًا ناجحًا، لقد عملت بكد؛ حتى أثبتُّ نفسي وذاع صيتي في هذا المجال الشاق، ولكني كذلك أحب كوني أبًا وزوجًا، وكيف لا؛ وجل ما أفعله هو في الأصل لهم، ومن أجل تأمين مستقبلهم؟!
هل حقًا أنا مصاب بإدمان العمل كما تقول لي زوجتي؟!
لا أدري! ولكني أعلم أنني أحب أسرتي كثيرًا، ولا أريد أن تظل هذه الخلافات عائقًا أمام سعادتنا.
قبل أن نعرض المشكلة ونحاول معًا وضع أيدينا على الحلول الممكنة، أرجو منك -عزيزي القارئ- أن تجيب على هذه الأسئلة أولًا:
هل تخبر زوجتك وأنت في عملك بأنك ستعود إلى المنزل بعد ساعة، ثم تكتشف أنه قد مر ثلاث ساعات منذ أن وعدت بذلك؟
هل تفضل إنهاء بعض المشاريع الخاصة بالعمل على رحلة نهاية الأسبوع التي وعدت بها أطفالك؟
هل تهرب من مشاكلك العاطفية وأزماتك الشخصية؛ فتشغل نفسك بالعمل حتى لا تفكر في ما يؤرقك؟
هل تخاف التعرض للإحراج أمام زملاء عملك أو مديرك وتخشى من الإخفاق في أي مهمة موكلة إليك مهما كانت بسيطة؟
تود الحصول على المزيد من المقالات المجانية على ترياقي؟ اشترك الآن ليصلك كل جديد!
هل أصبحت تعاني مشاكل صحية بسبب العمل، ولم تعد تهتم بممارسة أي أنشطة رياضية واكتسبت الكثير من الوزن، ومع ذلك لا تستطيع التوقف؟
هل تنظر إلى نفسك في المرآة فتشعر أنك تبدو أكبر سنًا من أصدقائك الذين لم تعد تجد وقتًا لمقابلتهم في أي مناسبة؟
الفرق بين الطموح وإدمان العمل
في ظل مجتمعات تسلط الضوء على نموذج (الشخص الناجح في عمله)، الذي يبذل كل جهده من أجل حصد أعلى المناصب نجد خلطًا كبيرًا بين الطموح في العمل وإدمانه.
ولكن ماذا لو كان نجاح بعضهم على المستوى المهني محققا على حساب حياتهم الصحية والاجتماعية!
حينها لا يمكن القول فقط بأن ذلك طموحًا وشغفًا للعمل، وإنما يطلق على هؤلاء أنهم مدمنو عمل.
فمتى يتحول العمل إدمانًا؟ وما هي أعراض إدمان العمل وعلاجه؟
هذا ما سنتناوله في هذا المقال، فتابع القراءة.
تعريف إدمان العمل
إدمان الشيء هو الرغبة التي لا يمكن السيطرة عليها، على الرغم من العواقب السلبية على الصحة الجسدية والعقلية وكذلك العلاقات العائلية والاجتماعية.
وهذا ما يحدث لأي شخص مصاب بـ “مرض إدمان العمل” أو ما يسمى (workaholic)، وهو رغبة ملحة لتحقيق المكانة المرموقة والنجاح الوظيفي، للهروب من التوتر والمشاكل النفسية أحيانًا.
تسبب هذه الرغبة شعورًا بنشوة تقود المصاب إلى الاستمرار في تكرار السلوك، بالرغم من إدراكه لآثاره السلبية على باقي جوانب حياته.
ولتحديد ما إذا كنت مصابًا بمرض إدمان العمل، فيما يلي بعض الأعراض والعلامات التي تدل على أنك قد تكون مدمنًا على العمل.
أعراض إدمان العمل
- قضاء ساعات طويلة في العمل بغير ضرورة.
- خوف شديد من الإخفاق في المهمات المطلوبة، أو توتر بسبب عدم القدرة على إنجازها على أكمل وجه.
- تقليل عدد ساعات النوم بسبب الانخراط في مشاريع خاصة بالعمل.
- استخدام العمل كوسيلة لتجنب العلاقات.
- وجود مشاكل وخلافات أسرية مستمرة بسبب عدم القدرة على الموازنة بين العمل والأسرة.
- تفكير مستمر في استغلال أي وقت للعمل، وتفضيل العمل على أي شيء آخر.
- الانشغال بالعمل كوسيلة لإخماد مشاعرك، مثل: القلق والاكتئاب أو الشعور بالذنب.
- ظهور بعض المشاكل الصحية بسبب كثرة العمل، ومع ذلك لا تستطيع التوقف عنه.
- استغلال العمل لتجنب التعامل مع الأزمات، مثل: الموت أو الطلاق أو الضائقة المالية.
أسباب إدمان العمل

غالبًا ما تكون الدوافع وراء الهوس بالعمل ذاتية؛ أي: نابعة من فهم الشخص لقيمته الذاتية وتصوره عن نفسه.
هناك بعض الأسباب التي قد تساهم في إصابتك بمتلازمة العمل، منها:
انعدام الثقة بالنفس
الرغبة في أن ينظر إليك على أنك الأذكى أو الأكفأ غالبًا ما تكون نابعة من انعدام ثقتك بنفسك، والاعتقاد بأن قيمتك الذاتية مرتبطة بالعمل؛ ربما غُرست في عقلك فكرة أن العمل الجاد هو الشيء الأهم في الحياة منذ الصغر.
اقرأ أيضًا: قلة الثقة بالنفس عند الرجل – ما بين السعي للكمال وجلد الذات!
الحاجة إلى الاهتمام المستمر
يحصل مدمنو العمل على قدر كبير من الاهتمام، خاصة من بعض المديرين الذين يستفيدون بشدة من وجود مدمن عمل ضمن فرقهم.
وهناك بعض الشخصيات المدمنة للعمل التي ترغب في جذب الانتباه ومحاولة الظهور والتميز عن غيرهم، وربما محاولة التملق لرئيس العمل للحصول على ترقيات ومكافآت مستمرة.
القلق من الإحراج
كثير من مدمني العمل هم من الساعين وراء الكمال، الذين لا يريدون أن ينظر إليهم مطلقًا على أنهم مخطئون؛ لذا يبذلون أقصى جهدهم في كل ما يفعلون.
اقرأ أكثر عن: الشخصية الباحثة عن الكمال – Perfectionist.
الهروب من مواجهة المشاكل
قد يكون إدمان العمل وسيلة لتجنب بعض الظروف والمشاكل الأسرية بدلًا من التعامل معها؛ فهم ببساطة يرون أن العمل عذر مناسب لعدم مواجهة الواقع.
الخوف من الشعور بالوحدة
ربما يفتقد بعض الأشخاص لوجود علاقات اجتماعية نتيجة ظروف مختلفة كالسفر والاغتراب -على سبيل المثال-؛فيلجأون إلى العمل لساعات أطول لتعويض شعورهم بالوحدة، دون أن يدركوا بأنهم معرضون لإدمان العمل.
للمزيد؛ اطلع على هذا المقال: بهذه الطرق البسيطة يمكنك التغلب على الشعور بالوحدة.
عدم الأمان المادي
يأتي بعض مدمني العمل من بيئات معدمة يتفشى فيها الفقر، وقد يشعرون بأنهم مهددون بفقد وظيفتهم التي توفر لهم المال، مع أنهم قد يجنون بالفعل ما يكفي احتياجاتهم وأكثر في الوقت الحالي.
حب العمل
ببساطة، قد يكون سبب مرض إدمان العمل هو الشغف بالعمل.
هناك بعض الأشخاص يحبون العمل طوال الوقت، يفضلون عملهم على كل شيء آخر، لدرجة أنهم قد لا يدركون وقعوهم فريسة سهلة للإدمان العمل.
مستويات إدمان العمل
يساعد تحديد مستويات إدمان العمل على اختيار آلية العلاج الأنسب، ويمكن تقسيم مستويات العمل حسب الأعراض على النحو التالي:
المرحلة الأولية
يُظهر الشخص ميلًا نحو العمل لعدد ساعات أكثر وتحمل أعباء إضافية فوق طاقته، حتى لو لم يكن هناك مقابل مادي.
وربما يتنازل عن أيام العطلة مقابل العمل. وقد ثبت أن هذه الفترة تعد من أنجح الفترات في التعامل مع آثار الانسحاب.
المرحلة المتوسطة
يبدأ مدمن العمل في هذا المستوى في سحب نفسه من العلاقات الشخصية؛ يظل مشتتًا ومرتبطًا عاطفيًا بالعمل في أثناء وجوده بالمنزل.
وتبدأ بعض المشاكل الصحية في الظهور، مثل: اضطرابات النوم، والشعور بالتعب والإرهاق طوال الوقت، وقد يظهر تغير في الوزن بالزيادة أو النقصان.
المرحلة المتأخرة
أما الذين يصلون إلى هذه المرحلة من متلازمة العمل، فتبدأ بعض الأعراض الجسدية والعاطفية الأكثر خطورة في الظهور.
مثل: الصداع المزمن، وارتفاع ضغط الدَّم، وقرحة المعدة، وزيادة خطر الإصابة بالسكتات الدماغية.
أضرار إدمان العمل
يمكن أن يؤدي إدمان العمل إلى العديد من العواقب السلبية المختلفة، منها:
- الإصابة بأعراض الاكتئاب والقلق والتوتر.
- نوبات غضب متكررة.
- الإرهاق والشعور بعدم الرضا عن العمل أحيانًا.
- مشاكل عائلية؛ بسبب تضارب متطلبات الحياة الأسرية والعمل، قد تنتهي بالطلاق والتشتت الأسري.
- آلام في الصدر وضيق في التنفس.
- صداع متكرر، وآلام في العمود الفقري، وآلام عضلية مختلفة.
- اضطرابات في النوم.
- زيادة خطر تعاطي المخدرات.
- أفكار انتحارية ربما تؤدي إلى الانتحار بالفعل.
يمكن أن يؤدي التوتر والضغط النفسي المستمر إلى زيادة خطر الإصابة بأمراض القلب والشرايين، والسكتات الدماغية.
علاج إدمان العمل

يمكن التخلص من إدمان العمل بأكثر من وسيلة -حسب رؤية الطبيب المعالج وتقييمه لحالة الشخص- وفيما يلي أكثر الخيارات شيوعًا:
العلاج السريري
لا يعد معالجة المريض من إدمان العمل داخل المستشفى أمرًا معتادًا، ولكن يحدث ذلك تزامنًا مع ظهور مشكلة أخرى مع إدمان العمل.
تأتي على رأس قائمة هذه المشكلات: تعاطي المخدرات، وبعض المشاكل النفسية التي تشكل خطرًا على المريض أو الآخرين مثل الاكتئاب والأفكار الانتحارية.
العلاج الخارجي
هو النهج الأكثر شيوعًا لعلاج مرض حب العمل، وينقسم إلى نوعين: العلاج السلوكي المعرفي (CBT) والمقابلات التحفيزية (MI).
وهما نفسهما وسيلتا العلاج المستخدمة لعلاج جميع أشكال الإدمان.
العلاج السلوكي المعرفي
يمكنك العلاج السلوكي المعرفي من التعرف على أنماط التفكير السلبية التي تؤدي إلى التصرفات الضارة.
ومن ثم القدرة على استبدال هذه الأفكار بأفكار أكثر إيجابية تشجع على اتباع السلوكيات البناءة.
المقابلات التحفيزية
يكشف هذا الأسلوب العلاجي عن مدى استعدادك للتغيير، وما هي المشاعر والأفكار التي تعيق رغبتك.
من هنا، يُحدَّد بداخلك دافع إيجابي يساعدك على التغلب على أي خوف أو مقاومة، وكذلك يمَّكنك من تحديد أهدافك حتى تستطيع المضي قدمًا في رحلة تعافيك.
إن الامتناع عن العمل ليس هو الهدف؛ لأن العمل ليس رفاهية، بل هو ضرورة لمعظم الناس، جميعنا يرغب في تحسين مستوى معيشته.
نرغب في امتلاك منزل أكبر، وسيارة أحدث، وتعليم أفضل لأطفالنا، وأيضًا حساب في البنك تأمينًا لمستقبل الأولاد.
ولكن أن تدع العمل يسيطر على حياتك، ولا تستطيع تحقيق التوازن بينه وبين باقي نواحي حياتك؛ هنا تكمن المشكلة.
تذكر دائمًا أن لبدنك عليك حقًّا؛ فضع صحتك قبل عملك، ولا تقد السيارة بطريقة تُشكَل خطرًا عليك حتى لو كنت متأخرًا على عملك.
وافصل بين عملك وأسرتك؛ فصفِّ ذهنك في أثناء اللعب مع أطفالك واستمتع بقضاء بعض الوقت معهم حتى وإن كان بسيطًا.
فأطفالك لن يذكروا تضحياتك من أجل جمع المال لهذا وذاك، ولن يبقى في ذاكرتهم إلا أوقات المشاركة الفعالة والتواجد الحقيقي، فيمّ ستملأ دفاتر ذاكرتهم؟!
وكذلك تناولْ وجباتك على مهل وفي وضعية مريحة، وتجنب الوجبات السهلة المضرة وتتبع نظامًا غذائيًا صحيًا.
ولا تعمل أكثر من 45 ساعة في الأسبوع، واحصل على إجازة أسبوعية؛ تستغلها للراحة ولإعادة شحن طاقتك.
تذكر دائما أنك المسيطر على حياتك والمتحكم بها لا أي شيء آخر.
فترفق بحالك ولا تلومن نفسك بعد الآن.