إيذاء النفس المتعمد | لِمَ لا أستطيع التوقف عن معاقبة نفسي؟

مررتُ في مراهقتي بمشاهد عديدة أربكت أفكاري وأثارت فضولي، ولكن ما أن يُنزَع عنها ستار الغموض وتنكشف حقيقتها حتى تذهب في طي النسيان.
إلا أن مشهدًا واحدًا ظل عالقًا بذاكرتي رغم مرور السنين، وما زاده نزع الستار عنه إلا غموضًا… ذراع زميلتي المشوَّه بالندوب.
أذكر يوم سألتها عن تلك الندبات التي تخفيها بحذر تحت كُمِّ قميصها، ولم أكن لأعلم بوجودها لولا رؤيتي لذراعها بينما نتوضأ.
ارتعدت فرائصها في بادئ الأمر، وحاولت التهرب من السؤال، ثم أخبرتني بعد لأي: “أنا مَنْ أجرح نفسي بالمِشرط“.
راعَني ما سمعت، فهتفت مستنكرة: “مَنْ ذا الذي يتعمد إيذاء النفس بهذا الشكل!“.
أجابتني بابتسامة باهتة: “ما لِجُرحٍ بمَيِّتِ إيلامُ!“
في هذا المقال، نلقي الضوء على سلوك إيذاء النفس المتعمد، ودوافعه، وعلاجه؛ علَّنا ننتشل صديقًا أو قريبًا من قاع أحزانه العميقة.
ولنسأل سؤالًا مهمًا: هل إيذاء النفس مرض نفسي؟
ما هو إيذاء النفس؟
هو أي سلوك يتعمَّد الشخص فيه إلحاق الأذى والألم بجسده بشكل متكرر، كنوع من التكيُّف مع الألم النفسي، وتنفيسًا للمشاعر السلبية كالحزن والغضب.
حلقة إيذاء النفس المفرغة:
- يمر الشخص بموقف عصيب أو يصيبه ألم نفسي شديد، فيلجأ إلى إيذاء نفسه لتخفيف هذا الشعور.
- يُحسُّ بعدها بتحسُّن مؤقت ما يلبث أن يبدأ حتى يزول؛ فيشعر برغبة مُلِحَّة لإيذاء نفسه من جديد.
- يتملكه إحساس بالندم والخزي وشعور بالعجز، مما يعمق ألمه النفسي؛ فيؤذي نفسه، وهلُمَّ جرًا.
أشكال إيذاء النفس
- جرح الجسم (Cutting) بآلة حادة كالمشرط.
- خدش الجسم، وإعادة فتح الجروح الملتئمة.
- حرق مناطق بالجسم باستخدام أعواد الكبريت أو السجائر.
- فرك الجلد بعنف لإحداث ضرر يشابه الحرق.
- ضرب الرأس في جسم صلب.
- بلع مواد غير صالحة للأكل أو سامة.
- شدُّ الشعر.
الأشخاص المعرضون لإيذاء النفس
يُعَدُّ سلوك إيذاء النفس عند المراهقين مشهدًا شائعًا، وتزيد احتمالية حدوثه عند الفتيات مقارنة بالأولاد.
تود الحصول على المزيد من المقالات المجانية على ترياقي؟ اشترك الآن ليصلك كل جديد!
ولكن الأمر لا يقتصر على المراهقين، إذ قد يمتد هذا السلوك إلى البالغين، خاصة في حالة وجود اضطرابات نفسية أخرى.
ما بين إيذاء النفس والانتحار
لا يحاول الشخص الذي يتعمد إيذاء نفسه -عادة- الانتحار. ولكن استخدامه للأدوات الحادة، وتعرُّضه للعديد من الجروح، قد يؤدي إلى بعض المضاعفات الخطيرة التي تهدد حياته وتسبب الوفاة.
وقد يتحول سلوك إيذاء النفس -على المدى الطويل- إلى إدمان يجرُّ صاحبه في النهاية إلى الاستسلام لفكرة الانتحار، إذ لا يستطيع التوقف عن هذا السلوك، فيتمكن منه اليأس، ويقرر إنهاء حياته ليتخلص من العذاب.
ما أسباب إيذاء النفس؟

إذًا، ما الذي يدفع أحدهم إلى أن يداوي جُرح قلبه بجَرحِ جسده؟
الدوافع
- يَوَدُّ أن يشتت الألم الجسدي انتباهه عن الألم النفسي.
- يمنحه جرح نفسه إحساسًا مؤقتًا بالسيطرة على جسده وتصرفاته.
- يعاني الوحدة والاكتئاب، ويشعر كأن ثقبًا أسود يبتلعه، فيؤذي نفسه كي يستعيد حواسه، ويشعره الألم بأنه حي.
- يحاول التخلص من ذكرى مؤلمة أو صدمة عنيفة كالتعرض للاعتداء.
- يشعر بالذنب، فيعاقب نفسه كي يخفف العبء النفسي.
- يعاني مشكلة في التعبير عن مشاعره من غضب وحزن.
العوامل المؤثرة في إيذاء النفس
هناك بعض العوامل التي تجعل أحدهم أكثر عرضة للوقوع في فخ إيذاء النفس دونًا عن غيره، مثل:
- النشأة في بيئة مفككة يسود فيها العنف الأسري.
- التعرض للتنمر في المدرسة.
- وجود اضطرابات نفسية أخرى كالاكتئاب والقلق.
- تعاطي الكحوليات والمواد المخدرة.
- فقدان الثقة بالنفس وكراهية الذات.
- التعرض للاعتداء الجنسي.
ما أعراض إيذاء النفس؟
من الضروري أن تُبقِي عينيك مفتوحتين لأي أعراض أو علامات تشير إلى أن طفلك -أو صديقك- يؤذي نفسه، مثل:
- تعمُّد ارتداء ملابس طويلة تخفي ذراعيه ورجليه طوال الوقت.
- ظهورإصابات غير مُبرَّرة -كالحرق والخدش- على جسده باستمرار.
- وجود أدوات حادة -لا يفترض له أن يحملها- ضمن أغراضه، مثل: المشرط.
- تدنِّي مستواه الدراسي فجأة، ويعجز عن التركيز.
- صعوبة في التعبير عن انفعالاته، وإيثار العزلة.
- وجود بقع دم على بعض ملابسه.
ما مخاطر إيذاء النفس؟

يظن الشخص أن الضرر الذي يلحقه بنفسه بسيط، ولكنه في الحقيقة يطوي مخاطر أكبر بكثير من تصوره، فمثلًا:
- قد يُحدِث جرحًا أعمق مما يظن بمشرطه، فيصبح الأمر -دون قصد- أقرب لمحاولة انتحار.
- قد يتلوث الجرح لعدم العناية به، أو فَتْحِه عدة مرات.
- قد يؤدي الإحساس بالذنب إلى رغبة في الانعزال، مما يعمق إحساسه بالوحدة والاكتئاب.
- قد يتحول سلوك إيذاء النفس إلى إدمان؛ فلا يستطيع التوقف حتى لو أراد.
كيف يُشخَّص إيذاء النفس؟
لا بُدَّ للطبيب المختص أن يتأكد من عدم وجود أي ميول انتحارية مصاحبة لسلوك إيذاء النفس قبل البدء في رحلة العلاج.
ولكي يتمكن من وضع خطة العلاج واقتلاع المشكلة من جذورها، يستمع الطبيب إلى مخاوف الشخص وأفكاره بحثًا عن إجابات للتساؤلات الآتية:
- ما طبيعة الجروح التي يسببها الشخص لنفسه؟
- ما الانفعالات التي تحفز هذا السلوك، وما المشاعر التي تسيطر عليه وقتها؟
- هل يتزامن هذا السلوك مع وجود مرض نفسي آخر؟
- ما احتمالية أن يتحول هذا السلوك إلى محاولة انتحار فعلية؟
- ما مدى استعداد المريض لتلقِّي العلاج؟
هل يمكن علاج إيذاء النفس؟
يجب عليك استشارة طبيب نفسي مختص فورًا في حالة كنت تؤذي نفسك، أو ظهرت أعراض إيذاء الذات على أحد أحبتك.
العلاج النفسي

يستخدم معالجك النفسي العلاج السلوكي المعرفي بهدف:
- مساعدتك على تنظيم انفعالاتك، والتعبير عنها بصورة صحية.
- تحديدِ الأفكارِ السلبيَّةِ التي تحفِّزُ إيذاءَ النَّفس، وإبدالِ أخرى إيجابيَّةٍ بها.
- إيجاد طُرُق آمنة للتعامل مع الضغط العصبي والتوتر.
- تحسين مهاراتك الاجتماعية وقدرتك على التواصل مع الآخرين.
- مساعدتك على تقبُّل المشاعر السلبية بشكل أوقع.
- تعزيز ثقتك بنفسك، ورفع رضاك عن ذاتك.
العلاج الدوائي
قد يلجأ الطبيب النفسي لوصف بعض الأدوية في بعض الحالات التي يتزامن فيها إيذاء النفس مع وجود اضطرابات نفسية أخرى، كالاكتئاب والقلق واضطراب الشخصية الحَدِّية.
كيف أتوقف عن إيذاء نفسي؟
- تحدَّثْ إلى شخص تثق به -كأحد أفراد عائلتك، أو صديقك المقرب- عَمَّا تعانيه من ألم، ولا تخجل من طلب المساعدة.
- حاوِل أن تصف لِمَنْ حولك المشاعر التي تحفز رغبتك في إيذاء نفسك. قد تعجز عن ذلك في البداية، ولكن سينجح الأمر بالتدريج.
- إذا تملَّكتك رغبة قوية في إيذاء نفسك، حاول تشتيت نفسك؛ اكتب ما تشعر به في ورقة ثم مزقها، أو وجِّه ضرباتك لوسادة تنفيسًا لغضبك.
- استبدِلْ بإيذاءِ النَّفسِ أفعالًا أخرى؛ كأنْ تَستخدِم قلمًا أحمرَ لرَسْمِ خطوطٍ على جِلدِك، عِوضًا عن جرحِه بالمشرَط.
- مارِس رياضة خفيفة -كالمشي- لتمنح نفسك مساحة لصرف الأفكار السلبية عن ذهنك.
- خُذْ حمامًا دافئًا إذا شعرت برغبة في الاسترخاء.
وختامًا يا صديقي العزيز، أدعو الله -بقلب مخلص- أن تجد لغضبك مُتنفَّسًا، ولحزنك وهمِّك مخرجًا. وأرجو أن تطيب جروح قلبك الدامية، وأن تُشفى جراح جسدك الحامية.
وأدعوك لأن تفتح أبواب قلبك الموصدة، وأن تتحرر من قيدك، وأن تدع النور يتسلل أخيرًا إلى باطنك؛ فيُصلِح ما انكسر، ويردُّ إليك روحك، فتبتهج!