الإسعاف النفسي الأولي | عندما تسترد نفسك!

الساعة السابعة مساءً… أوشكتُ على الانتهاء من الكشف على المرضى، واستعددت لاستقبال الحالة الأخيرة…
وإذا بالباب يُفتح على مصراعيه فتظهر لي سيدة في حالة يرثى لها، تشد يد ولدها لتجبره على الدخول!
طفل صغير يبدو على وجهه الهلع والذعر!
لكنه ليس الشيء الوحيد الذي يلفت نظرك عندما تقع عيناك على وجهه البريء…
فثمة جروح وكدمات متفرقة على جبينه ووجهه، وجبيرة ضخمة تلتف حول يده الصغيرة!
- ماذا أصابكم سيدتي؟!
بدأت الأم تستجمع قوتها وتخرج عن صمتها، محاولة تمالك أعصابها، وقالت:
- «تمكنوا من انتشال ابني من تحت الأنقاض، بعد أن فقدت الأمل في رؤيته مجددًا!
لقد انهار عقار منزلنا بالكامل فوق رؤوسنا!
مر على هذه الكارثة أسبوع، أسبوع كامل وهو يشاهد الكوابيس، لم يهنأ له نوم ولم يرتح له بال!
ما الحل يا سيدي؟!»
قالتها وهي في حالة انهيار تامة، ثم استرسلت:
تود الحصول على المزيد من المقالات المجانية على ترياقي؟ اشترك الآن ليصلك كل جديد!
«لقد فقدت الأمل في أن أرى ولدي يعيش حياته الطبيعية كما كان قبل هذه المصيبة التي حلت علينا!»
- إنه شيء طبيعي يا سيدتي، إن طفلك يعاني اضطراب ما بعد الصدمة، إنه رد فعل طبيعي تجاه التجربة الأليمة والقاسية التي مر بها.
ليس هينًا على طفل في عمره أن يُنتشل من تحت ركام منزله، ويحاط بالجثث والجرحى من كل الجهات!
ويأتي هنا دوري، بصفتي طبيبًا نفسيًّا، في تقديم الإسعافات النفسية الأولية له لمساعدته على تخطي محنته!
إن الإسعافات النفسية الأولية لا تقل أهمية عن الإسعافات الطبية التي تلقاها.
لكن اسمحي لي أولًا أن أشرح لكِ معنى الإسعافات النفسية الأولية، وما عناصرها.
ما هي الإسعافات النفسية الأولية؟
الإسعافات النفسية الأولية هي آلية علاجية مصممة للسيطرة على أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، الذي يصيب الأطفال والمراهقين والبالغين، عقب تعرضهم لكوارث أو أحداث أليمة، وإعانتهم على تجاوز محنتهم والتحكم في حالة الضيق والهلع الناجمة عن الأحداث الصادمة، إضافة إلى مساعدتهم على التكيف معها على المدى القريب والبعيد.
لا تفترض الإسعافات النفسية الأولية أن جميع الناجين سيصابون بمشكلات نفسية حادة، أو أنهم سيواجهون صعوبات في التعافي؛ لكنها توضح أن الناجين أو المتضررين من جراء هذه الأحداث قد تظهر عليهم مجموعة كبيرة من ردود الأفعال الجسدية أو النفسية أو السلوكية.
تسبب ردود الفعل دخول صاحبها في نوبات قلق وخوف، مما يؤثر في مسار حياته ويعرقل تطوره. وهنا يأتي دور المعالج في تقييم الاهتمامات والاحتياجات الفورية للأفراد عقب الكارثة مباشرة، وتعزيز الاستقرار النفسي لهم.
من يمكنه تقديم الإسعافات النفسية الأولية؟
أصبحت الإسعافات الأولية تلقى اهتمامًا بالغًا في كثير من دول العالم، واتجهت الكثير من الدول إلى تدريب فرق مواجهة الأزمات والكوارث على تقديم تلك المساعدة.
نستعرض معًا قائمة الأشخاص الذين يمكنهم تقديم المساعدات النفسية:
- المختصون، مثل: الطبيب النفسي أو الاختصاصي النفسي.
- الممرضون.
- رجال المطافئ.
- المسعفون.
- المتطوعون المتدربون من الأشخاص العاديين الذين تسنى لهم الحصول على دورات تدريبية عن الإسعافات النفسية الأولية.
عناصر الإسعاف النفسي الأولي
دائمًا ما نذهب مهرولين إلى المشفى بعد أي حادثة نتعرض لها لتضميد جروحنا ووقف نزيف دمائنا…
لكن، ماذا عن جروح النفس؟! لماذا لا يُلقي أحد لها بالًا؟!
لذا، صُممت المساعدات النفسية لتُعاون مريض اضطراب ما بعد الصدمة في أن يعود إلى حياته الطبيعية ويسترد نفسه.
حاولت أن أهدئ من روع الأم، والتفتُّ إلى الطفل المنكوب لأبدأ معه خطتي العلاجية…
بادرت بالحديث معه وتفعيل عناصر الإسعافات النفسية الأولية، وفق المراحل الآتية:
- خلق الشعور بالأمان
وجهت كلامي للطفل الصغير، وحدثته قائلًا:
«لا تقلق يا صغيري، أنت الآن بخير. انظر حولك، لا يوجد آثار للركام أو الحُطام، وكل شيء سيسير على ما يرام.»
يبدأ المعالج دوره بخلق شعور بالأمان وإبعاد الشخص عن مكان الخطر، وكأنه يتواصل مع الدماغ ويقنعه بأن الموقف المجهد قد انتهى.
- تهدئة المريض
«خذ نفسًا عميقًا، عُدَّ إلى أربعة، ثم تنفس ببطء»… بهذه الكلمات البسيطة نحاول مساعدة المصاب، ليشعر بالهدوء والاستقرار.
من الضروري أن نتحدث ونتصرف بهدوء؛ لأن ذلك بطبيعة الحال سينعكس على نفسية الضحايا ويشعرهم أنهم في مكان آمن.
- تقديم الدعم العاطفي
«مع أن الوضع الحالي يبدو قاتمًا بعد أن خسرت منزلك، لا بد أن ترى الجانب الإيجابي لتلك الحادثة؛ لقد نجوت أنت وأسرتك بالكامل، إنكم بصحة جيدة، مجرد إصابات طفيفة تشفى بمرور الوقت.»
نقدم هنا الدعم العاطفي للمريض ونخلق بداخله حالة من الأمل، موضحين له أن كل شيء سيتحسن بإذن الله.
- اسأل المريض عن احتياجاته
شارك المصاب اهتماماته واسأله عن احتياجاته، حتى وإن اعتقدت أنها بديهية ومعروفة، واحرص على توفير احتياجاته الأساسية من الطعام والشراب.
يساعد ذلك على تعزيز الدعم وإضفاء حالة من الثقة والراحة بينكما.
أين تقدم الإسعافات النفسية الأولية؟
صممت الإسعافات النفسية الأولية بحيث يمكن تنفيذها في بيئات متنوعة ومختلفة، مثل:
- الملاجئ.
- المستشفيات الميدانية.
- مرافق الرعاية الحرجة، كأقسام الطوارئ.
- مراكز الإغاثة في حالات الكوارث.
- مراكز الإرشاد الأسري.
- المنازل والشركات وغيرها من الأماكن المجتمعية.
ختامًا…
الإسعافات النفسية الأولية هي وسيلة لتقديم الدعم للأفراد المنكوبين، دون المساس بكرامتهم أو ثقافتهم.
لذا، احرص على ألّا تجبر الشخص المصاب أمامك على الكلام، فقط لاحظه بأدب وهدوء واعرِض عليه تقديم المساعدة التي يرغب بها.
كتبته د.منى كرم