الانفتاح على الآخر | السير على البلور المكسور

لقد نشأت مع عائلتي في قرية صغيرة بعيدة عن العاصمة، وكانت حياتنا هادئة يغلب عليها الطابع الروتيني بعض الشيء.
عندما أنهيت الدراسة الثانوية، فضَّل معظم زملائي المكوث في القرية وعدم الالتحاق بالجامعة، لأنهم لا يرغبون في السفر والانتقال إلى العاصمة.
أما أنا فكنت أراها مغامرة جديدة، ويدفعني الفضول إلى خوضها، لأني أتطلع إلى رؤية أماكن جديدة ومقابلة أشخاص مختلفة.
إنها الجامعة، ذاك الصرح العظيم، الذي يعد منبع الأفكار ومصبها، فيها يأتي كل دارسٍ حاملًا خصائص بيئته وأفكاره الخاصة،
ليشاركها مع الآخرين خلال رحلة ثرية، يخرج منها مؤثرًا ومتأثرًا.
فتجربة الانفتاح على الآخر التي عشتها في الجامعة، علاوة على ما تعلمته من دروس حياتية في أثناء العيش في العاصمة،
قد تفوق في التأثير في شخصيتي ما درسته في الكتب.
حديثنا في هذا المقال عن الانفتاح، ماذا يعني وكيف يؤثر فينا، إضافة إلى مناقشة مفهوم الانفتاح الحضاري، ومفهوم الانفتاح الاجتماعي، فهيا بنا …
ماذا تعني صفة الانفتاح؟
الانفتاح (Openness) هو إحدى السمات الشخصية الخمسة الكبرى، إضافة إلى يقظة الضمير، والانبساطية، والقبول، والعصابية.
وتشير صفة الانفتاح إلى مقدار تقبل الشخص لمجموعة متنوعة من الأفكار والحجج والمعلومات، بجانب الإقبال على التجارب الجديدة.
كما يميل المنفتحون دائمًا إلى الفضول وحب البحث والمغامرات، والتطلع إلى الوسائل الإبداعية الفريدة.
إذًا فالانفتاح يعد المرآة العاكسة للخيال والإبداع والفضول الفكري، وكذلك زيادة الوعي والإدراك.
تود الحصول على المزيد من المقالات المجانية على ترياقي؟ اشترك الآن ليصلك كل جديد!
وتشير البحوث إلى أن سمة الانفتاح تبلغ ذروتها في سن المراهقة، وقد تتراجع تدريجيًّا مع تقدم العمر.
وقد كشفت الدراسات عن تجلي صفة الانفتاح بين الأفراد في أمريكا الجنوبية، وانخفاضها في دول شرق آسيا مقارنة بباقي دول العالم.

إلامَ يشير مصطلح الانفتاح على الآخر؟
يستخدم مصطلح الانفتاح على الآخر لوصف استعداد الأشخاص لتقبل وجهات نظر أخرى، كما يشير أيضًا إلى إمكانية طرح الأسئلة والبحث عن المعلومات التي تخص ثقافات وعقائد مختلفة.
كما يقترن مفهوم الانفتاح على الآخرين بحرية التعبير وتبادل الآراء والحجج، فأن تكون منفتحًا يعني ذلك قدرتك على التفكير في وجهات النظر الأخرى ومحاولة التعايش مع الآخرين، حتى إذا كنت لا تتفق معهم.
ولكن بالتأكيد ثمة ضوابط وحدود للانفتاح على الآخر، فلا يعني ذلك أن تتعاطف مع كل أيديولوجية، ولكن كونك منفتحًا فأنت تبذل جهدًا لفهم العوامل التي شكلت أفكار الآخرين، ومن ثَم فقد تنجح في إقناعهم بتغيير آرائهم.
خصائص الشخص المنفتح
في الغالب من تتجلى لديه صفة الانفتاح غالبًا ما يأتي بالأفعال الآتية:
- لا يغضب إن أخطأ.
- يتحدى الأفكار التقليدية.
- يلازمه التواضع مهما بلغ من المعرفة والخبرة.
- يدفعه الفضول دائمًا للاطلاع على ما يعتقده الآخرون.
- يتعاطف مع الآخرين ويفكر فيما يشعرون به.
- يصغي لما يقوله الآخرون، ويؤمن بحقهم في مشاركة معتقداتهم وأفكارهم.
ما أهمية الانفـتاح على الآخر؟
يعد الانفتاح بوجه عام صفة إيجابية؛ فهو قدرة ضرورية تساعد على التفكير النقدي العقلاني، وإقامة روابط بين المفاهيم والأفكار المختلفة.
فإذا لم تكن منفتحًا على الأفكار ووجهات النظر الأخرى، يصعب عليك رؤية جميع العوامل التي أدت إلى مشكلة معينة، ومن ثم يتعذر الوصول إلى حلول فعالة لها.
من ناحية أخرى، قد يجد الأشخاص الذين يفتقرون إلى الانفتاح صعوبة في التأقلم مع التغييرات، إذ يتعاملون مع الأشياء الجديدة بحذر شديد، ويفضلون الروتين والعادات المألوفة.

إيجابيات الانفـتاح على الآخر
- يكسبك الفطنة وبعد النظر
إن تحدي الأفكار التقليدية وكثرة البحث والاطلاع على تجارب الآخرين، يمنحك رؤى جديدة حول العالم، ويجعلك تكتشف نفسك من جديد وتنظر إليها بطرق مختلفة.
- يزيد رصيد خبراتك
لا شك أن الانفتاح على الأفكار الأخرى يفتح لك الباب أمام تجارب جديدة، تضيف إلى رصيد خبراتك في الحياة.
- يثري نموك الذاتي
عندما تتطلع إلى العالم من حولك، وتعرف المزيد عن الثقافات الأخرى، وتتعلم أشياء جديدة، وتزداد درجة وعيك وإدراكك،
بالتأكيد سينعكس ذلك على تعاملاتك وتصرفاتك، لأنك ستكتسب اللباقة وحسن التصرف.
- يصقل عقلك وأفكارك
من أهمية الانفتاح على الآخر أنه يجعلك شخصًا أكثر حيوية وفاعلية، إذ تستمر خبراتك ومعرفتك في البناء على بعضها البعض كنتيجة لتراكم الأفكار والتجارب الجديدة.
- يشعرك بالتفاؤل
لعل من أبرز إيجابيات الانفتاح على الآخر أنه يجعلك أكثر تفاؤلًا تجاه الحياة والمستقبل، فالانغلاق غالبًا ما يكون المسؤول الأول عن النظرة السلبية للأمور.
- يكسبك مهارات عدة
إن التواصل مع الأشخاص ذوي وجهات النظر والخبرات المختلفة سينعش عقلك، ويدفع حدود أفكارك إلى بعيد، وهو ما يشجعك دائمًا للاستمرار في التعلم و اكتساب المهارات.
الانفـتاح السلبي
لعل من أبرز الدروس الحياتية التي تعلمناها أن كل شيء زاد عن حده انقلب إلى ضده، وكل ما لم ترسم حدوده بدقة،
ولم تحكمه الضوابط والقواعد حتمًا سيكشف عن أنيابه مظهرًا وجهه الآخر.
كذلك الانفتاح السلبي، فهو قد يمحي هوية صاحبه ويتركه هشًا هزيلًا في مهب الريح، فإن لم تحكِّم عقلك وتجعله يقظًا لكل ما يستقبله، وتطوع كل المدخلات لتلائم بيئتك وعقيدتك وأعرافك، ستصبح فريسة لأي تيار يجرفك معه إلى حيث يشاء.

سلبيات الانفـتاح على الآخر
- التأثر والتطبع
قد يتأثر الكثيرون -خاصة المنفتحين على ثقافات أخرى- بأوجه الاختلاف بينهم وبين غيرهم، سواء كان اختلافًا ظاهريًا كطرق العيش والملبس والمأكل، أو اختلافًا جوهريًا في العادات والتقاليد وأساليب التفكير.
كما قد تكثر المحفزات والمصادر التي يتعرض لها الشخص، وهو ما يصيبه بحالة من التشتت تضيع وسطها أصالته وهويته،
ويتحول إلى تابع ساذج أشبه بطفل صغير يحبو خلف كل ما يثيره.
- فقدان الشغف والمرونة السلبية
قد يؤدي الانفتاح مع المرونة الزائدة في تقبل أي شيء إلى فقدان الانبهار والشغف والاهتمام.
فمثل المرونة في صورتها الإيجابية كمثل من يعدلون بيئتهم ومواقفهم لتناسب أفكارهم وإيمانهم، أو كمثل من يتكيف مع منزل في مكان بارد ويتحدى الطقس بالبحث عن حطب يوقده.
أما أصحاب المرونة السلبية فيميلون إلى تعديل أنفسهم للتوافق مع الموقف، دون بذل أي جهد في تحدي الموقف ذاته،
وكأنه أمر مفروض عليهم ومفروغ من تغيره.
فمن أبرز سلبيات الانفتاح على الآخر أن يواكب الناس التيار، ويفقدون شغفهم وإحساسهم بأي التزام، حتى تصير كلماتهم دائمًا
“أنا لا أمانع” و”أنا غير مهتم”.
أنواع الانفـتاح
يمتد الانفتاح إلى ما هو أكثر من كونه صفة فردية، ليصبح مفهومًا أعم وأشمل؛ ويضم الانفتاح الاجتماعي، والانفتاح الحضاري
أو الثقافي، والانفتاح الاقتصادي وغيرهم.
فيظهر مفهوم الانفتاح الاجتماعي مؤخرًا كنتيجة للثورة التكنولوجية وتطور وسائل الاتصالات، إذ أصبح بإمكان أهل الشرق معرفة أدق تفاصيل حياة أهل الغرب بكل سهولة، بل إقامة العلاقات معهم.
أما عن مفهوم الانفتاح الحضاري على الثقافات الأخرى، فهو الذي يدعو للاطلاع على علوم الآخرين ومعارفهم، للاستفادة من تطورهم
العلمي والتكنولوجي بما يتناسب مع بيئتنا وثقافتنا، للحاق بركب التقدم.
ومهما تعددت أنواع الانفتاح ومفاهيمه يظل التقليد الأعمى صفة مذمومة، فاستنساخ سلوكات وأفكار مجتمع آخر لمجرد أنه أكثر تقدمًا
ما هو إلا فعل أحمق، فما قامت حضارة إلا على ثورة علمية وصناعية حقيقية بعقول وأيادي أبنائها.
وأخيرًا، نحن نعيش في عالم مملوء بالمشتتات والمحفزات، تزداد فيه الصراعات الفكرية والثقافية، ويتسابق الجميع من أجل الاستحواذ وفرض السيطرة على الآخرين، سواء على المستوى الشخصي الاجتماعي أو المستوى العالمي بين الأمم.
وأن تكون قادرًا على الانفتاح على الآخر، وتستطيع الخروج من محيطك الآمن، لتطلع على وجهات نظر الآخرين وأفكارهم،
فذلك أمر جيد ويستحق التقدير؛ ولكن دون المساس بالتقاليد والأعراف، ودون التخلي عن هويتك الشخصية وعقيدتك.