ترياق الأسرة

التربية الإيجابية | كيف تبني إنسانًا سويًا؟

“أريد هذه الحلوى! أريد هذه الحلوى!”

سمعت هذا الصراخ الباكي في أثناء تسوقي، التَفَتُّ فإذا بي أرى طفلًا لم يتجاوز الرابعة من عمره يتشبث بإحدى الأرفف بأنامله الصغيرة، بينما تشده أمه بعنف كأننا في حلبة مصارعة!

وما إن علا صراخه واشتد بكاؤه وازداد ضجيجه حتى أخرسته أمه بصفعة قاسية تردد صداها في أرجاء المكان.

وطُبِع على وَجْنة الصغير ثلاثة خطوط حمراء ملتهبة تمثل أصابع الأم؛ فقد كانت صفحة وجهه أصغر من أن تتسع لكفِّها كاملًا!

وأدركتُ حينها أن ما انطبع في قلبه كان أكبر من تلك الخطوط الثلاثة، وأن أثر صفعتها الغاضبة سيدوم للأبد.

قلت لنفسي: “ليتها تسمع عن التربية الإيجابية؛ فلو أنها أدركت أي ضرر تركته في نفس صغيرها، لعضّت أصابعها ندمًا!”

إذًا، كيف نربي أبناءنا بصورة صحية؟ هل الضرب هو السبيل الأمثل لتأديبهم أم أن هنالك حلول أخرى؟ 

وهل هناك علاقة بين التربية الإيجابية وتنمية الذكاء والثقة بالنفس؟ 

هذا ما نوجِزه في مقالنا اليوم.

ما هي التربية الإيجابية؟

هي إحدى أساليب التربية التي تركز على بناء علاقة صحية بين الطفل وأهله، وتستبدل طرق العقاب التقليدية -كالضرب والتعنيف- بوسائل أخرى قائمة على النقاش والاحترام المتبادل بين الطرفين. 

تود الحصول على المزيد من المقالات المجانية على ترياقي؟ اشترك الآن ليصلك كل جديد!

ويظن بعض الناس أن غياب طرق العقاب التقليدية يعني ترك الحبل على الغارب، فيستَنكرون ويمتعِضون إذا ما ذُكِرت التربية الإيجابية أمامهم. 

أساليب التربية المختلفة

يخلط بعض الناس بين التربية الإيجابية والتربية المتساهلة؛ لذا اسمح لي أن أوضح لك أولًا أساليب التربية المختلفة لتستطيع التفرقة بينها:

التربية السلطوية

التربية السلطوية

تعتمد على فرض سلطة الأهل المطلقة على الأبناء، فيضعون من القواعد والقوانين ما بدا لهم دون توضيح أو إبداء أسباب، وعلى الطفل السمع والطاعة دون نقاش. 

ويتوقع الأهل من أطفالهم حسن التصرف باستمرار؛ فالخطأ عندهم غير مقبول ويستلزم العقاب الفوري.

وقد يلجؤون لطرق عقاب عديدة كالضرب أو التعنيف أو السب، بل وربما يقلل أحدهم من شأن طفله ظنًا منه أنه يؤدبه، كأن يقول: “كم مرة عليّ أن أشرح لك الأمر؟ ألا يمكنك فعل أي شيء بصورة صائبة أبدًا؟!”

وكما ترى، فإن ذلك النوع من التربية كثير المتطلبات، قليل الاهتمام بالطفل ذاته -بأفكاره ومشاعره ورغباته.

التربية المتساهلة

يمنح الآباء -في هذا النوع من التربية- الحرية المطلقة للطفل، فلا يهتمون كثيرًا بوضع قوانين واضحة لضبط تصرفات الطفل وحثه على حسن التصرف.

ولكنهم -مع ذلك- يولون عناية خاصة لآراء الطفل ورغباته، ويغمرونه بالعطف والحنان والدعم والتشجيع، وقد يبالغون في تدليله أحيانًا.

وتكمن مشكلة هذا النوع -قليل المتطلبات كثير الاهتمام- في عدم قدرة الطفل فيما بعد على اتخاذ قرارات صائبة، إذ لم يجد من يدله للسلوك القويم.

وقد يجد أيضًا صعوبة في فهم مشاعر من حوله، أو الإذعان للقواعد والقوانين؛ لأنه معتاد على نيل ما يريد وقتما يشاء بغض النظر عن رغبات الآخرين. 

التربية المهملة

يصبح الأهل هنا الحاضر الغائب في حياة الطفل، فيقتصر وجودهم على توفير أساسيات الحياة -من مسكن وملبس- ويغفلون تمامًا عن احتياجات الطفل النفسية.

فينشأ الطفل في بيئة مفككة تخلو من الاهتمام والدعم، ولا يجد من يقوِّم سلوكه ويرشده إلى سواء السبيل.

التربية الإيجابية أو الحازمة

تحقق التربية الإيجابية التوازن بين توفير الدعم، والمحافظة على الانضباط، فهي تربية كثيرة المتطلبات وكثيرة الاهتمام بالطفل وآرائه وأفكاره. 

يضع الأهل قواعد واضحة، ويشرحون أسبابها وملابساتها للطفل -كنوع من الاتفاق- ويحددون عواقب كسر هذه القواعد.

ويهدف هذا الأسلوب إلى تنشئة طفل سوي نفسيًا قادر على تحمل تبعات أخطائه وإصلاحها إن أمكن.

وإضافة إلى ذلك، يولي الأهل اهتمامًا خاصًا لمشاعر الطفل ويسمحون له بالتعبير عن أفكاره وإبداء آرائه في بيئة داعمة، ويمنحونه حبًا غير مشروط.

مما ينعكس على شخصيته، وثقته بنفسه، وقدرته على اتخاذ قراراته، ويزرع ذلك في نفسه الخصال الحميدة؛ لا لأنه يخشى العقاب ولكن لأنه يفهم لِمَ عليه أن يتصرف بصورة صائبة.

كيف تطبق قواعد التربية الإيجابية؟

يتصرف الطفل -في مراحل عمره المختلفة- على النحو الذي يظنه صائبًا، وقد تبدو تصرفاته غير منطقية بالنسبة إليك؛ إذ لا تزال المناطق المسئولة عن التحليل والتفكير في عقله طور النمو. 

لذا، فإنه من الضروري أن تعي أن طفلك لا يتعمد إغضابك، وإنما يعد سلوكه جزءًا من تطوره الطبيعي، وهو في أمس الحاجة لنُصحِك وإرشادك.

التربية الإيجابية للرُضّع

التربية الإيجابية للرُضّع

إن هذه المرحلة ضرورية في تطور طفلك الذهني والعاطفي؛ فيتعلم كيف يُردد اسمك، وكيف يلاعبك، ويفهم معنى الثقة والحنان للمرة الأولى، لذا:

  1. تحدث مع طفلك الرضيع طوال الوقت، ففي صوتك راحة لنفسه.
  2. إذا تمتم طفلك ببعض كلمات مبهمة، أجبه كأنك تُحادث شخصًا بالغًا؛ إذ يشجعه ذلك على تطوير لغته.
  3. احرص على تلبية نداء طفلك فورًا كلما بكى، لا تتركه وحيدًا، وهدهده حتى ينام. 
  4. داعبه ولاعبه، وأظهر له حبك وحنانك، واحمله بين ذراعيك كثيرًا حتى يطمئن.
  5. اهتم بصحتك النفسية والجسدية قدر إمكانك؛ إذ ينعكس ذلك على تعاملك مع طفلك.

التربية الإيجابية للأطفال (من 1 إلى 5 سنوات)

  1. ساعد طفلك على اكتشاف العالم من حوله: اقرأ له قصصًا مصورة، وشجعه على تعلم أسماء الأشياء؛ ليتمكن من التعبير بصورة أفضل.
  2. أعره انتباهك وامدح سلوكه الحسن دائمًا، ولا تجعل جُل تركيزك على تصرفاته الخاطئة؛ حتى لا يظن أنها الطريقة المناسبة للفت انتباهك.
  3. إذا تصرف بصورة خاطئة، وضح له كيف تريده أن يتصرف في المرة القادمة واشرح له الأسباب.
  4. علِّمه كيف يعبر عن غضبه وحزنه بطريقة صحيحة، وكُن له مثالًا يُحتذى به.
  5. احرص على وضع قواعد واضحة وبسيطة، ووضح له عواقب كسر هذه القواعد -كأن تسحب منه مصروفه لفترة زمنية معينة.
  6. امنحه بعض المساحة ليعتمد على نفسه؛ كأن تدعه يرتدي ملابسه بنفسه، أو يرتب ألعابه كما ينبغي.
  7. دعه يتخذ بعض القرارات لنفسه؛ كأن يختار الملابس التي يود أن يرتديها، أو الطعام الذي يفضل تناوله اليوم.
  8. حدد مدة معينة لمشاهدة التلفاز للأطفال الأكبر سنًا -على ألا تتجاوز الساعة يوميًا- وتخيّر البرامج التي يشاهدها طفلك بعناية.
  9. استمع إليه حتى لو لم يقل كلامًا مفهومًا، حتى يعتاد اللجوء إليك كلما احتاج إلى الشكوى أو الكلام.

التربية الإيجابية للأطفال (من 6 إلى 11 سنة)

  1. احتفل بإنجازاته الصغيرة، وشجعه على مواجهة التحديات، واحرص على أن يشارك في أي نشاط رياضي أو فني. 
  2. اطلب منه مساعدتك في بعض المهام البسيطة كترتيب الأغراض أو تنظيف الطاولة.
  3. شجعه على مساعدة الآخرين، واحترام من هم أكبر سنًا منه.
  4. علِّمه الصبر؛ كأن تخبره أن عليه إنجاز المهمة الشاقة أولًا قبل أن تسمح له باللعب مع أصدقائه.
  5. تعرّف على البيئة المحيطة به، دعه يقص عليك حكاياته في المدرسة ومع أصدقائه.
  6. لا تقارنه بمن حوله؛ إذ يضعف ذلك عزيمته، وقد يُدخل إلى قلبه الغيرة أو الإحباط.
  7. تناقش معه من حين لآخر حول السلوك القويم والسلوك المرفوض.
  8. دعه يفكر في حلول مشاكله بنفسه؛ كي لا يعتمد عليك اعتمادًا تامًا.

التربية الإيجابية للمراهقين (من 12 إلى 18 سنة)

  1. اسمح للمراهق بالتعبير عن رأيه دون أن تهاجمه أو تقلل من شأنه. 
  2. امنحه قدرًا من حرية الحركة واحترم خصوصياته.
  3. لا تهاجم شخصه إذا أخطأ، ولكن ركز على نقد السلوك الخاطئ ذاته.
  4. حافظ على الروابط الأسرية؛ كأن تحرص على أن تتناول الأسرة الغداء معًا.
  5. تحدث معه باستمرار؛ اشرح له التغيرات التي سيمر بها بما يتلاءم مع عمره، واحكِ له عن مراهقتك ليشعر بأنه ليس وحده.
  6. اعرف من يُصادق، واشرح له مخاطر بعض التصرفات -كإدمان المخدرات.
  7. يمكنك استشارة الطبيب النفسي في حال خرج سلوكه عن طور المألوف؛ كأن يحاول الانتحار أو إيذاء نفسه.

وإنني أعلم -عزيزي القارئ- أن تربية الأبناء ليست بالمهمة اليسيرة، بل هي رحلة مضنية تتطلب جهدًا كثيرًا وصبرًا طويلًا؛ ولكنني أثق تمامًا في قدرتك على تخطي المصاعب التي تواجهك بنجاح. 

فاعتنِ بنفسك ولا تستسلم… كان الله في عونك!

المصدر
Positive parenting improves multiple aspects of health in young adultsPositive parenting definedPositive parenting Positive parenting tips - CDC8 characteristics of authoritarian parentingWhy parenting style matter when raising a childPermissive parenting characteristics and effect
اظهر المزيد

د. لميس ضياء

صيدلانية إكلينيكية، قضيت شطرًا من عمري بحثًا عن العلم، وأنوي قضاء الشطر الآخر في تبسيط ما تعلمته وتقديمه بلغة سهلة مستساغة للجميع. تستهويني النفس البشرية وأسعى دومًا لسبر أغوارها، وفك طلاسمها، وفهم ما قد يؤرقها من اضطرابات واعتلالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى