التربية الصارمة وأثرها على نفسية الأبناء | الصورة ليست كما تبدو في المرآة!

“لقد تربينا جميعًا بالشّدِّة ولم نتأثر سلبًا، كفى دلعًا لا معنى له!”
تقرأ “منى” التعليق السابق مرارًا وتكرارًا في تلك المجموعة الخاصة بالأمهات الجدد؛ إذ تسأل إحدى الأمهات عن كيف تتعامل مع صغيرها ذي العامين وهو دائم الصراخ.
وتسأل أخرى عن كيف تُقنِع ابنتها بأهمية المذاكرة أو أداء واجباتها أو الذهاب إلى التمرين وهي دائمة الرفض لكل شيء؛ لتنهال عليها نصائح الأمهات ذوات الخبرة.
لكن يظل ذاك التعليق يطل من الشاشة بين الحين والآخر؛ معبرًا عن فئة كبيرة لا يمكن إغفالها فيما بيننا.
وفي زمنٍ تؤثر الموضة بشكل كبير في كثير منا، انتشرت مؤخرًا بعض المصطلحات الخاصة بالتربية؛ مثل “التربية الإيجابية”، و”التربية الرحيمة” وغيرهما…
وصار لكل منها مؤيد ومُعارض، مُدقِّق وسطحي. وكثرة الحديث عنها جعلتها تبدو للبعض كـ “موضة” يرغب في اتباعها؛ انطلاقًا من مبدأ (بما أن الجميع يتحدث عنها فهي بالتأكيد أمرٌ جيد)، تمامًا كما يُفعَل مع أي موضة أخرى!
لكننا اليوم عزيزي القارئ، سنتحدث تفصيلًا عن تلك الشِدَّة التي تربى كثير منا عليها في مجتمعنا؛ أقصد “التربية الصارمة” أو “النظام السلطوي في التربية”.
فما هي نتائج التربية الصارمة؟ وما تأثير (الحزم في تربية الأبناء) على صحتهم النفسية؟
ما هي التربية الصارمة ؟
يمكن أن يطلق عليها أيضًا “التربية الحازمة”، ويُقصد بها اتباع أسلوب الحزم في التعامل مع الطفل، فيرى المربِّي أنه:
- صاحب السلطة الوحيد على طفله، وأنه وحده من يعلم ما في مصلحته.
- يرى أيضًا أنه ليس هناك معنى لإعطاء هذا الطفل الصغير -بنظرِه- الحرية في اتخاذ القرار، فهو لم يرَ من الدنيا شيئًا بعد.
- كذلك يعتمد على إصدار الأوامر والرغبة في تنفيذها دون نقاش، فإذا كنت تسمع جملة: (لأنني قلت هذا!) كردٍ على كل مرة تسأل فيها والدك عن سبب قرار اتخذه وأمرك بتنفيذه، فهو بذلك قد اتبع معك أسلوب التربية الصارمة على الأغلب.
دوافع التربية الصارمة
على الرغم من قسوة هذا الأسلوب ورفض كثير من الأبناء له في داخلهم، إلا أنه لا يصدر بالضرورة عن رغبة المُربِّي في التحكم بطفله فقط، بل لقناعته بأنه يعرف ما فيه الخير له جيدًا، وأنه بذلك يدفعه لبذل الجهد ويحفِّزه للنجاح أكثر.
تود الحصول على المزيد من المقالات المجانية على ترياقي؟ اشترك الآن ليصلك كل جديد!
فما العيب في أن أقول لطفلي أنه (متخاذل) لأنه نقص نصف درجة في الاختبار الشهري، وهو يستطيع أن يتفوق على جميع أقرانه بتسجيل الدرجات النهائية؟!
لماذا يختار المُربِّي اتباع أسلوب التربية الصارمة؟
عند النظر إلى الصورة الخارجية، تجد الأطفال المنتمين إلى أُسَر صارمة هم الأكثر انضباطًا، ويُحْسِنون التصرف أغلب الوقت، فلا خيار أمامهم إلا الطاعة -خوفًا من العقاب-.
لذا؛ فقسوة الآباء على أبنائهم تظهر كوسيلة جيدة للمربِّي، لماذا؟
لأنها الأسهل دائمًا؛ فهي تجعل حياتك اليومية كمُربِّي أسهل، لستَ مضطرًا لشرحٍ طويل أو تبريرٍ لما تطلبه وتأمرهم به.
فقد اكتسبتَ هيبةً تجعلُ لكلمتك حساب، وتُجنِّبك سوء السلوك الصادر عن الأطفال الأشقياء أمام العائلة أو المجتمع من حولك.
لكنك عزيزي القارئ، ربما تحتاج إلى التفكر في ما ستجنيه على المدى البعيد، فالنظر إلى ما تحت أقدامنا يجعل الخيارات أسهل دائمًا، لكن الحياة ليست هكذا…
فخياراتنا تأتي بضريبة لا يجب التغافل عنها في لحظات الاختيار!
هل تُخرِج التربية الصارمة جيلًا ناجحًا؟

مع أن التوجهات الحديثة ترفض اتباع نهج “التربية القاسية” مع الأبناء، إلا أن من يتبع هذا الأسلوب يتمسك برأيه في أنها تحقق نتائج عظيمة في نجاح الأبناء في الدراسة.
فكثير من الطلاب المتفوقين ينتمون إلى عائلات تدفعهم دفعًا إلى أن ينكبّوا على الكُتب، وتنهرهم على نصف الدرجة الضائعة، وربما تحرمهم من تمضية الوقت مع أصدقائهم، بل وتسلبهم الحق في اختيار هؤلاء الأصدقاء ابتداءً، أو اختيار الأنشطة الرياضية، أو أي قرارات أخرى في حياتهم.
لكن قبل أن تسبقني -عزيزي القارئ- بقول أنك لا تعاني آثارًا سلبية مع اتباع أهلك هذا الأسلوب معك، وتصمم على
اتباعه مع أبنائك، دعنا نفكر سويًا:
هل حقًا لا تعاني أية آثارٍ نفسية بداخلك؟!
هل صرنا جيلًا متزنًا نفسيًا مع العقاب المتكرر، والحرمان من اتخاذ أبسط القرارات، والانضباط بالتهديد المستمر؟!
اقرأ أيضًا: أثر التربية في صورة الطفل على نفسه مستقبلًا
صحيح إنه ربما صار منا الطبيب الناجح والمهندس المتفوق والمعلم الماهر، لكننا كذلك صرنا مجتمعًا يفيض
بالتشوهات النفسية، ويعاني “هشاشة نفسية” ربما لا يقوى معها على بناء أجيالٍ جديدة مستقرة نفسيًا!
الحق -عزيزي المربي وعزيزتي المربية- إن مسؤوليتنا الكبرى والأولى هي (بناءُ إنسان)، قبل تخريج ذاك المهندس،
أو تلك المُعلِّمة إلى سوق العمل.
لتتضح الرؤية أكثر، دعنا نستعرض بعضًا من نتائج “التربية الصارمة” على نفسية الأبناء…
أثر التربية الصارمة في نفسية الطفل

أثبتت كثير من الدراسات مؤخرًا وجود تأثيرات سلبية لاتباع التربية القاسية مع الأبناء، فالأطفال والمراهقون
المعرضون للنهر والزجر والتهديد والعقاب المستمر، يصبحون أكثر عرضة لبعض الاضطرابات والآثار النفسية، منها:
الاكتئاب
تزداد فرص الإصابة بالاكتئاب في سن المراهقة في حالة وجود ضغط مستمر من المربي. فربما يؤدي كبت المشاعر
إلى الرغبة في الانعزال، وسيطرة الأفكار السلبية على الطفل، وقد يتطور الأمر إلى الإصابة بالاكتئاب.
القلق النفسي
يتحول المنزل المتبع أسلوب التربية الصارمة إلى ساحة حرب عند اقتراب موسم الامتحانات، ويصبح انتظار النتيجة كأنه اختبار تحديد مصير!
كل هذا يأسر الطفل داخل بؤرة دائمة من التوتر، فهو يرغب في إرضاء والديه، لكن احتمال الفشل يضعه في موقف محرج.
وربما يصاب الطفل بـ “اضطراب القلق النفسي” مع الوقت.
الاضطرابات السلوكية
قد يظهر طفلك أمامك كحَمَلٍ وديع، لكنه في غيابك ينتهز الفرصة لإطلاق الطاقة الكامنة بداخله، فيفعل ما يحلو له.
كذلك قد يُظهر الطفل العنف عند تعامله مع أهله وأقرانه، فهذا ما اعتاد عليه؛ إذ يتعلم الطفل بالقدوة.
وفي مرحلة المراهقة، يفتقد القدرة على إدارة مشاعره، وقد يتطور الأمر إلى بعض الاضطرابات السلوكية؛
كاضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، أو اضطراب التصرف أو السلوك التخريبي أو العدواني.
ضعف الشخصية

تظهر قسوة الآباء على الأبناء كعامل أساسي في ضعف شخصية الطفل؛ فهو لم يعتد حرية الاختيار،
وكلماته ومشاعره ليست مسموعة أغلب الوقت.
لذا؛ قد يشعر الطفل بالدونية وعدم الاستقلالية، ويكبر وهو يعتقد ضرورة وجود شخص مسؤول عنه يجب عليه اتباعه
دون اعتراض (لأنه يختار الأصلح للمجموعة بالتأكيد!)، وأن دوره مقصور على (السمع والطاعة).
التنمر والسخرية
عادة ما تصاحب قسوة الآباء على البنات والأبناء بعض عبارات السخرية والتنمر، ويظهر انعكاس هذا الأمر على
سلوك الطفل:
إما بجعله أكثر عرضة للتنمر بين أقرانه لضعف شخصيته ومعرفتهم تأثير والديه عليه، أو يصبح الطفل نفسه مصدرًا
للتنمر على زملائه تمامًا كما يُفعَل معه.
عدم القبول
يعتاد الطفل على أنه ينال الرضا فقط عندما يُحسن التصرف، بل ربما يكون دافعه للطاعة هو تجنب العقاب فحسب.
وخطر هذا على الطفل يكمن في شعوره بعدم قبوله لذاته كما هي، فهو إما أن يحسن التصرف فيكون شخصًا جيدًا،
أو يسيئه فيخسر رضا من حوله.
اقرأ أيضًا: عجز الطفل عن التعبير عن مشاعره ورغباته
الكذب
إذا كنتَ تظن أن طفلك حسن السلوك لا يفعل أي شيء خاطئ، فاسمح لي عزيزي المربي أن أخبرك بحاجتك
-على الأغلب- إلى مراجعة نفسك!
فمتى تعلم الطفل فعل الخير بدافع داخلي؟!
هل يعرف سبب ما يفعله وقيمته الأخلاقية؟! أم يفعله فقط لأنه يُطلَب منه؟!
يكتسب الطفل مع الوقت مهاراتٍ للإفلات من العقاب ويُبدع في إظهار ما تريد أن تراه أنت.
هكذا تأتي ضريبة الخيارات الأسهل مع الأسف!
فالتربية أمرٌ شاق، ولن تكون بتلك السهولة أبدًا عزيزي المربي.
فهل الحياة كلها بالأبيض والأسود فقط؟!
هل حقًا لا توجد خيارات أخرى إلا النجاح المدوِّي أو الفشل الذريع؟! الطاعة أو الشقاء؟
ربما تكون هذه هي نظرتك للحياة، لكن الحقيقة أن هناك مساحة (رمادية) كبيرة تتدرج بين الأبيض والأسود،
قد تختار عدم رؤيتها، لكن إغماض عينيك عنها لن ينفي حقيقة وجودها!
فطالما أننا اخترنا تحمل مسئولية بناء إنسان صالح في المجتمع؛ فالأجدر بنا تحمل تلك المسؤولية كما ينبغي.
ونسأل الله التبصرة بالطريق القويم، وهدايتنا إليه.