نظرية التعلم بالملاحظة لباندورا

“يجب أن نأكل كي نحيا، لا أن نحيا كي نأكل” هذه أحد المبادئ التي طالما آمنت بها؛ فعلاقتي بالمطبخ ليست جيدة على الإطلاق.
أحاول دائمًا طهي أسرع وأسهل الأكلات، إذ إن إعداد قوالب الحلوى واستغراق عدة ساعات من يومي لتزيينها أشبه بالمهمة المستحيلة.
أبحث في كل مرة عن طريقة عمل وصفة سبق وأعددتها مرارًا، وأندهش ممن يحفظ المقادير وطريقة الطهي من المرة الأولى!
والمدهش في الأمر أن طفلي ذا الست سنوات يُظهر حبًا غريبًا نحو المطبخ؛ تجذبه برامج الطهي على التلفاز ويستمتع بمشاهدتها، ودائمًا ما يسألني عن الأنواع المختلفة من البهارات، وطريقة إعداد الأكلات المختلفة.
تقول لي أمي: “ابنك يحب الطهي كثيرًا، ويجب أن تنمي هذه الموهبة بداخله”، ولكني لم آخذ كلامها على محمل الجد قط.
كنت أتحدث معها على الهاتف منذ يومين، وذكرت لي في حديثها أنها ستطهو سمكًا على الغذاء؛ وإذا بابني يقفز من مكانه ويقول لها “جدتي، هلا أخبرك بطريقة إعداد سمك شهي؟!” وبدأ يصف الطريقة كاملة بكل تفاصيلها، وأنا أنظر إليه ولا أصدق ما أسمع!
كيف ومتى عرف ذلك؟ هل مجرد مشاهدة البرامج كونت لديه هذه الخبرة؟! هل وجوده بجانبي في المطبخ علمه ذلك دون أن أدري؟!
يبدو أنه قد حان الوقت للعمل بنصيحة أمي…
في هذا المقال سنتعرف إلى إحدى أشهر نظريات التعلم في علم النفس وهي نظرية التعلم بالملاحظة والمحاكاة،
وهل التعلم بالملاحظة والتقليد يكفيان لاكتساب أي سلوك؟ وما الشروط الواجب توافرها لضمان نجاح عملية التعلم بالملاحظة.
التعلم بالملاحظة
يُقصد بالتعلم بالملاحظة عملية التعلم من خلال مراقبة عادات وسلوكات الآخرين، ومن ثم تخزين تلك السلوكات والاقتداء بها فيما بعد.
تود الحصول على المزيد من المقالات المجانية على ترياقي؟ اشترك الآن ليصلك كل جديد!
ولكي تتضح لك الصورة، هل سألت نفسك يومًا، كيف تعلم الطفل الرضيع التفاعل مع الآخرين، والتعبير عن ذلك من خلال الابتسام والكلام؟ وكيف تعلم المشي والقفز واللعب؟
كيف تعلم ابنك التمييز بين التصرفات الصحيحة وغير الصحيحة، وأن ذلك يؤدي إلى الثواب، والآخر يؤدي إلى العقاب؟!
هل سألت نفسك كيف تعلم طفلك تمرير الكرة وإحراز هدف في أول مباراة كرة قدم لعبها في حياته؟
هل وجدت نفسك معجبًا بثقة مديرك في نفسه، متأثرًا بطريقة حديثه وتعامله مع موظفيه في أثناء الاجتماعات، وتحاول الاقتداء به؟
أظن أن الأمر قد بدأ يتضح الآن، فالإنسان كائن اجتماعي بطبعه، يعيش في ضمن مجموعات من الأفراد، يؤثر ويتأثر بهم.
فأدمغتنا البشرية ديناميكية وتعمل عن طريق التقاط وتجميع وملاحظة المئات بل الآلاف من الرسائل اليومية (دعنا نسميها مدخلات)،
ثم تخزين تلك المدخلات ومعالجتها داخل الدماغ، وهناك مصيران لا ثالث لهما لتلك المدخلات؛ إما أن تهمَل وتنسى كأن لم تكن،
أو يُستخرج الهام منها في الوقت المناسب.
هل السلوك يورث؟ | هل لديك جينات قاتلة؟
نظرية التعلم بالملاحظة لباندورا

باندورا هو أحد أشهر علماء النفس الاجتماعي والأكثر تأثيرًا في القرن العشرين، وقد أسهم بشكل كبير في وضع أسس فهم الشخصية والسلوك ومفهوم الفعالية الذاتية.
كان لباندورا رأي مختلف عن باقي علماء النفس الذين ينظرون إلى التعلم على أنه نتيجة مباشرة للتكيف والثواب والعقاب فقط.
آمن هو أن معظم السلوك البشري يتم تعلمه من خلال الملاحظة والمحاكاة والتقليد، الأمر الذي دفعه للقيام بتجربته الشهيرة
“الدمية بوبو”، والتي وضع على أساسها نظرية التعلم الاجتماعي أو ما يطلق عليها نظرية التعلم بالملاحظة.
هناك ثلاثة مفاهيم ترتكز عليها نظرية التعلم بالملاحظة لباندورا؛ الأول هو فكرة أن الشخص يمكنه التعلم من خلال الملاحظة،
والثاني أن الحالة الذهنية جزء أساسي في عملية التعلم، والثالث أن تعلم سلوك معين ليس بالضرورة أن يؤدي إلى تغيير في سلوكات الشخص المتلقي.
تجربة الدمية بوبو

جاء باندورا بمجموعة من الأطفال وقسمهم إلى عدة مجموعات، وعرض عليهم مقطعًا من فيلم، يظهر فيه شخص بالغ يمارس عنفًا
وعدوانية على دمية بلاستيكية من المطاط.
وهناك ثلاث نهايات مختلفة للمقطع تُعرَض إحداها على تلك المجموعات، إما أن يكافأ الشخص أو يعاقب أو لا يكون هناك رد فعل على ما فعل.
وسمح باندورا للأطفال بعد ذلك باللعب مع نفس الدمية، ولاحظ أن الأطفال قلدوا تصرفات الشخص البالغ وأظهروا عنفًا وعدوانية تجاه
الدمية، في حال رؤيتهم للمقطع الذي كوفئ فيه الشخص على تصرفاته العنيفة أو لم يتلقَّ أي عقاب.
على عكس الأطفال الذين شاهدوا مقطع الفيلم الذي عوقب فيه هذا الشخص على سلوكه العدواني.
للمزيد اقرأ: تجربة الدمية بوبو.
المقومات الأساسية لنجاح عملية التعلم بالملاحظة
ولكي تتم عملية التعلم بالملاحظة بنجاح، يجب توافر أربعة شروط أساسية:
الانتباه
أولى الخطوات التي يجب توافرها في عملية التعلم بالملاحظة هو الانتباه لسلوك الآخرين، وأي شيء يشتت انتباه الشخص المتلقي يؤثر سلبًا في عملية التعلم.
وكلما كان الموقف مثيرًا وجديدًا زاد فضول الشخص وشد انتباهه.
ومن المتوقع لطبيعة البشر أننا ننتبه للنماذج الموهوبة والذكية والتي تتمتع بمكانة عالية، أو الأشخاص القائمين على رعايتنا كالأب والأم.
فإذا كنت تطمح لتكون مديرًا في المستقبل، فمن المتوقع أن تلاحظ وتراقب سلوك مديرك الحالي الذي يتمتع بقدر عالٍ من الذكاء والفطنة.
الاحتفاظ
هل تذكر كم المعلومات التي حفظتها قبل دخولك أي امتحان، ما مقدار ما تذكر منها الآن؟ أقل القليل، وغالبًا فإن المعلومة المهمة والتي لفتت انتباهك هي المعلومة التي لصقت بذهنك.
لذا؛ فحتى نكتسب سلوكًا معينًا، لا بد أن يُحفظ داخل أدمغتنا حتى يُستدعى وقت الحاجة.
الممارسة
اكتساب سلوك معين يحتاج منا إلى الممارسة المستمرة الدؤوبة، فلا يمكنك الاكتفاء بمشاهدة مديرك في العمل وهو يتحدث بلباقة وإقناع، بل تحتاج إلى ممارسة هذه المهارات على أرض الواقع.
الدافع
إذا انتبهت إلى السلوك واحتفظت به داخل عقلك ومارسته دون وجود دافع وسبب قوي وراء تقليد الشخص؛ فلن تكتسب هذا السلوك.
قسم باندورا الدوافع إلى نوعين، خارجية وداخلية؛ فالخارجية هي معرفة أن النموذج قد كوفئ ماديًا أو معنويًا على سلوك معين؛
فقلده المتلقي.
أو عوقب النموذج على السلوك، أو تعرض للتهديد لإظهاره؛ فتجنبه المتلقى.
أما الدوافع الداخلية للشخص فهي تُعد شكلًا من أشكال الحوافز الداخلية؛ إذ تدرك أن الطريق لكي تصبح مديرًا ناجحًا في المستقبل يتطلب منك الإصرار على اكتساب بعض المهارات.
وكذلك قد يتعلم الطالب شيئًا ما رغبة في الإنجاز والشعور بالرضا أو الفخر، فهذه المشاعر هي المحرك الأساسي الذي يقودك
إلى التعلم.
اقرأ أيضًا عن: كيف تصبح المدير الأفضل في 7 خطوات؟
دورنا كآباء ومعلمين.

لا بد في النهاية أن نعي أن عملية التعلم بالملاحظة والتقليد تحدث طوال الوقت للكبار والصغار، حتى لو لم يكن هناك نية من قِبل الأشخاص المُقلَّدين.
نحن -البالغين- لدينا النضج الكافي لمعرفة الفرق بين الصواب والخطأ، أما الصغار فلا يستوعب عقلهم ذلك أو ربما يختلط عليهم الأمر.
وعليه؛ يجب أن نكون حذرين فيما نقدمه لأطفالنا، وما يُعرض عليهم على شاشات التلفاز ليل نهار، وما القيم التي تُقَّدم لهم،
وهل تتوافق تلك القيم مع ما تود تنشئة طفلك عليه في المستقبل؟!
وإذا كنا نحاول تهيئة بيئة آمنة للطفل، فيجب أن نعي خطورة الدور الذي نلعبه كمربين لهذا النشء.
فمثلًا، يتعلم طفلك القراءة ويرتبط بها بشكل غير واعٍ عندما يجدك تقرأ باستمرار، لا من خلال حديثك عن أهمية القراءة وأنت لا تمتلك كتابًا واحدًا في مكتبتك! ولا تحاول تخصيص خمس دقائق يوميًا للقراءة.
لا تعطه محاضرة عن فضائل الصدق واحترام المواعيد، وأنت غير متحلٍّ بتلك الصفات.
أطفالنا مرآة لأفعالنا، لذا فأنت نافذة طفلك على هذا العالم الفسيح بخيره وشره، فكن خير دليل ومعلم.
اقرأ أيضًا: تربية الأبناء | السبيل لنجاح غَرْسِك الأغلى!
تفسير التسامح الاجتماعي في نظرية بندورة النظرية الاجتماعية