التكيف الاجتماعي | التأقلم مع مستجدات الحياة

«دوام الحال من المحال»… حقيقة ثابتة لا جدال فيها؛ فالحياة سريعة التقلب والتغير. قال الشاعر:
ما بَين غمضة عينٍ وانتباهتها يغَير الله من حالٍ إلى حال
ومن نِعم الله -سبحانه وتعالى- على الإنسان أن زوَّده بقدرة عجيبة على التعامل مع التغيرات المحيطة به، بما فيها التغيرات الاجتماعية.
هذه القدرة تُسمَّى “التكيف الاجتماعي”، وقد تناولها علماء النفس بالدراسة والبحث، ومن بين الكثير من التعريفات التي ذكروها، نختار ما ذكره العالمان النفسيان (إدوارد رويتر) و(كليد هارت).
عرف العالمان التكيف الاجتماعي بأنه: خطوات متتابعة ينسجم بها الأشخاص مع ظروف الحياة المتغيرة.
إن ظروف الحياة تفرض على الأشخاص عاداتٍ وسلوكاتٍ معينة للتعايش معها. ومن خصائص التكيف:
- هو نتيجة طبيعية للتناقض والاختلاف؛ فلولا وجودهما، لَما كانت ثَمَّة حاجة إليه.
- غالبًا ما يحدث التكيف بشكل تلقائي.
- يحدث باستمرار مع غالب البشر، في أغلب ظروف الحياة.
- هو مزيج من المُحبوبات والمكروهات التي يتكيف الإنسان معها.
أنواع التكيف الاجتماعي
1- الاستسلام أو الاعتراف بالهزيمة
ويعني وجود قوة قاهرة لإنهاء الخلاف، متضمِّنًا أطرافًا غير متكافئة القوى، ومن ثم يخضع الطرف الأضعف عندما
تنفد لديه الطاقة اللازمة لمواصلة الخلاف الحالي أو عندما يخاف من عدم قدرته على مواصلة الخلاف مستقبلًا.
والهدنة التي تحدث بعد انتهاء الخلاف هي مظهر من مظاهر التكيف الاجتماعي.
وينتهي الخلاف عندما ينتصر أحد الأطراف على الآخر، وعلى الخاسر أن يختار بين الخضوع للظروف المفروضة عليه، أو المقاومة مع وجود احتمال الخسارة.
2- قبول التنازلات:
عندما تكون الأطراف متكافئة في القوة، ولا يستطيع أحدها أن يقهر الآخر، يلجأ الجميع إلى بعض التنازلات وقبول
بعض شروط الآخر لتسوية الأمر.
تود الحصول على المزيد من المقالات المجانية على ترياقي؟ اشترك الآن ليصلك كل جديد!
يكون التنازل عن بعض المنافع في سبيل الحصول على منافع أخرى؛ مما يعطي شعورًا بالرضا للجميع،
وهذا الشعور هو أحد أشكال التكيف الاجتماعي أيضًا.
ومن أبرز أمثلة هذا النوع: حل الخلافات البرلمانية.
3- التحكيم والتوفيق بين الأطراف المتنازعة:
عن طريق تدخل طرف ثالث بين طرفي النزاع، على أن يكون محل ثقة لهما، فيحاول إيجاد مساحة مشتركة بين
الطرفين ليبني عليها طريقته في إنهاء النزاع، ويكون قراره النهائي والتزام كافة الأطراف به طريقة من طرق التكيف الاجتماعي.
مثل: التوفيق بين الزوجين المتنازعين، أو التحكيم في الخلافات الدولية.
4- التسامح:
ليس هناك تنازلات بين الأطراف المتنازعة، وإنما هو الحرص على عدم اتساع رقعة الخلاف والتعايش مع الأفكار المضادة التي لا يمكن التخلص منها بشكل قاطع.
مثل: التعايش بين المذاهب الدينية أو السياسية.
5- التحول والتغير:
عندما يقتنع أحد الطرفين بخطأ رأيه وصواب الرأي الآخر؛ فيترك رأيه ويعتنق الرأي الآخر.
وعادة ما يحدث هذا في ما يتعلق بالأديان والمعتقدات، وقد يحدث في مجالات السياسة والاقتصاد أيضًا.
6- التبرير:
وهو محاولة إيجاد أعذار مقبولة أو تفسير سلوكٍ ما بدلًا من الاعتراف بالخطأ أو التقصير.
ولا يقتصر هذا النوع من التكيف الاجتماعي على الأفراد فقط، بل قد يشمل الدول أيضًا…
فقد بررت ألمانيا بدءها الحرب العالمية الثانية بأن الحلفاء كانوا يخططون لتدمير ألمانيا، وبررت الولايات المتحدة مشاركتها في الحرب بأنها أرادت تحرير العالم من الفاشية.
7- التفوق والتبعية:
وهو من أكثر أنواع التكيف الاجتماعي شيوعًا، وهو السبب الغالب للنظام المجتمعي، فالعلاقة بين الآباء والأبناء مبنية عليه.
وفي المجموعات الأكبر -سواء كانت اقتصادية أو سياسية- تبنى العلاقة بينها على هذا الأساس.
حتى في الأنظمة الديمقراطية؛ هناك القادة الذين يَأمرون، وهناك الأتباع الذين يأتمرون، ويستقر الوضع على هذا الحال.
التكيف الاجتماعي عند الأطفال

يهدف التكيف الاجتماعي عند الأطفال إلى تذليل كافة الصعوبات التي تواجه الأطفال في حياتهم اليومية، سواء داخل المدرسة أو خارجها، ويستهدف كافة الأطفال وخصوصًا الذين يعانون صعوبات في التعلم أو التفكير.
ويمكن أن تُرى مظاهر التكيف الاجتماعي في كثير من الأنشطة، مثل: ورش العمل، والمخيمات الصيفية، والنوادي الرياضية، وغيرها.
يمكن الاستفادة من هذه المظاهر بشكل طبيعي، وبعض الدول تنص قوانينها على أحقية الأطفال ذوي الإعاقات العقلية أو الجسدية في الاستفادة من هذه التسهيلات، ولها خطوات محددة لا بد من اتباعها.
مجالات التكيف الاجتماعي
للتكيف الاجتماعي مجالات عدة، من أهمها:
- المجالُ الديني: وهو جزء لا يتجزأ من التكوين النفسي، واستقراره يؤثر في علاقة الإنسان بربه وبمجتمعه،
ويكون سببًا في استقامة المجتمعات وبعدها عن الصراعات الطائفية والنزاعات المذهبية.
- المجال الاقتصادي: يلعب الاقتصاد دورًا مهمًّا في اتزان الفرد وشعوره بالرضا في حال اليسر أو الإحباط في حال العسر، ومن ثم ينعكس هذا على سلوكه.
- المجال الأسري: لأن الأسرة هي اللبنة الأولى للمجتمع، واستقرار أفرادها وتوافقهم يؤثر بشكل كبير في سلوكهم
وتفاعلهم مع مجتمعهم، سواء كان في ما بين الزوجين أو في ما بين الآباء والأبناء أو في ما بين الأبناء بعضهم بعضًا.
- المجالُ المهني: ويشمل الرضا المهني، والانسجام مع الرؤساء والزملاء، وتجنب ضغوط العمل، وحل المشكلات المتعلقة به، وبناء علاقات مهنية قوية.
- المجال الدراسي: يمثل التكيف في مجال الدراسة حافزًا لزيادة التحصيل العلمي، وتوثيق العلاقة بين الطلاب
ومعلميهم، وبين الطلاب بعضهم بعضًا، ويوفر بيئة خصبة للنمو السوي، ويمنع الكثير من المشكلات السلوكية التي قد تحدث خلال مراحل الدراسة المختلفة.
التكيف الاجتماعي للطلاب الوافدين

يواجه الطلاب الوافدون كثيرًا من الصعوبات والتحديات عند انتقالهم من بلدانهم إلى بلدان أخرى بغرض الدراسة.
ومن أهم هذه التحديات: اللغة، والتواصل مع الثقافات الأخرى، وتغير المناخ، والتمييز العنصري.
وقد أثبتت الكثير من الدراسات أن التكيف مع هذه العقبات ينعكس بشكل إيجابي على التحصيل العلمي لهؤلاء
الطلاب، وينعكس أيضًا على اندماجهم في مجتمعاتهم الجديدة بشكل أسرع وأكثر فعالية.
وعلى النقيض من ذلك قد يتأثر الطلاب الوافدون سلبًا بهذه الظروف؛ مما يؤدي بهم إلى رفض هذه التغيرات
والانعزال عن الآخرين، وما يتبع ذلك من السلبيات، مثل: التأخر الدراسي والمشكلات النفسية المعقدة.
التكيف الاجتماعي المدرسي

للأطفال جميعًا الحق في الحصول على فرص متساوية للتعلم؛ ولذا فإن الفائدة من التكيف الاجتماعي المدرسي هو تحقيق ذلك المبتغى.
ولا يقصد بالتكيف الاجتماعي المدرسي تغييرًا في المناهج التي يدرسها الطفل، بل يقصد به تغيير الطريقة التي يتعلم بها الطفل.
وكلما كانت الطريقة المستخدمة مختصة بحل مشكلة تعليمية معينة، كانت أكثر فائدة ونفعًا.
نذكر هنا على سبيل المثال أربعًا من الوسائل التي تحقق التكيف الاجتماعي المدرسي:
- تغييرُ طريقة عرض المعلومات: فبالنسبة إلى الأطفال الذين يعانون عسر القراءة، Dyslexia يمكن توفير مناهج صوتية لهم بدلًا من الكتب الورقية.
- تـغيير طريقة استجابة الطفل: مثل توفير لوحة مفاتيح خاصة لمساعدة الأطفال الذين لا يستطيعون الكتابة بسهولة على حل الامتحانات والواجبات.
- تغيير تجهيزات مكان التعلم: مثل السماح للأطفال المصابين بمرض قصور الانتباه وفرط الحركة (ADHD) بأداء الامتحانات في غرف منفصلة ليس فيها ما يشتت انتباههم.
- تغيير التوقيتات والمواعيد: مثل إعطاء الأطفال ذوي الفهم البطيء أو الإعاقة العقلية المزيد من الوقت لأداء الامتحانات والواجبات.
وأخيرًا نقول: إن القدرة على التكيف الاجتماعي من أعظم نعم الله على الإنسان، واستغلال هذه القدرة بشكل مثالي يعود بالنفع العميم على الإنسان وعلى مجتمعه وعلى أمته، ويعد مؤشرًا جيدًا على استقامة المجتمع ونهضته.