التكيف السلوكي | تأقلمٌ من أجل البقاء!

أنهت (دنيا) عملها في تمام الثالثة عصرًا وذهبت مسرعة إلى مدرسة ابنها (أحمد) لتصطحبه إلى البيت، كعادتها كل يوم.
وعند وصولها إلى المدرسة استقبلها الصبي بفرحة وبهجة، وقال لها متوسلًا:
«أمي، أريد بعض بذور الفول والقمح لزراعتها في المنزل؛ فقد تعلمنا ذلك في حصة العلوم، وشرحت لنا المعلمة أن نمو النبات يعتمد على الماء والضوء، فهما غذاؤه، كما شرحت لنا أجزاء النبات وسبب نمو الأوراق فوق الأرض والجذور تحتها…»
سعدت الأم بكلام ابنها وشغفه بتطبيق ما تعلمه، فقالت له مداعبة:
«حسنًا يا عزيزي، سأشتري لك البذور وأزرعها معك، ولكن لدي اختبار صغير لك؛ هل تعرف ما سبب نمو النبات بهذه الطريقة التي ذكرتها؟»
أجاب الصبي سريعًا:
«نعم يا أمي؛ إنه التكيف السلوكي للنباتات، فقد أخبرتنا المعلمة اليوم عن التكيف السلوكي للكائنات الحية.»
قالت الأم فرِحة: «أحسنت يا بني! هيا بنا لنشتري البذور.»
إن ما فعلته الأم من تنظيم وقتها بين مهام عملها داخل البيت وخارجه لهو ضرب من ضروب التكيف السلوكي مع ظروف البيئة المحيطة.
عزيزي القارئ…
تود الحصول على المزيد من المقالات المجانية على ترياقي؟ اشترك الآن ليصلك كل جديد!
إن التكيف السلوكي مهارة يتعلمها الكائن الحي، ليستطيع العيش في بيئته وما يطرأ عليها من تغيراتها.
ويصعب حصر مظاهر التكيف السلوكي للإنسان؛ فالإنسان هو أرقى الكائنات الحية والعقل البشري يستطيع التكيف بأعلى الدرجات.
وللمزيد عن مفهوم التكيف السلوكي؛ رافقوني خلال سطور المقال.
التغيير سنة كونية!
«الثابت الوحيد هو التغيير!»
عبارة منسوبة إلى الفيلسوف اليوناني (هيراقليطس).
وتلك حقيقة الكون… التغير المستمر، وعلى الكائنات الحية التعايش والتكيف مع التغير، وإلا كان الموت والانقراض.
مفهوم التكيف
توصل علماء الأحياء إلى أن التكيف هو طريقة يسلكها الكائن الحي للبقاء على قيد الحياة في مواجهة الاضطرابات البيئية المحيطة.
ومما يساعد الكائنات الحية على التكيف “الطفرات الجينية”، التي تنتقل من جيل إلى آخر لتصبح فيما بعد صفات سائدة لا مجرد طفرات.
تعيش الكائنات الحية بكل أنواعها في بيئات دائمة التغير: تارة جافة وتارة ماطرة، تارة باردة وتارة شديدة الحرارة… تغيرات ومتغيرات لا حصر لها.
أنواع التكيف في الكائنات الحية
- التكيف الهيكلي أو التركيبي أو الجسدي:
للبيئة أثر في هيكل الكائن الحي وشكله الخارجي؛ مما يتيح له الحياة والتأقلم في ظروف بيئته.
- التكيف الوظيفي أو الفسيولوجي:
هو تكيف غير مرئي لا يظهر على الشكل الخارجي، ولكنه يماثل التكيف الهيكلي في أنه مادي، يحدث للجسد ولكن في وظائفه الداخلية.
وقد تمكن العلماء من التعرف على هذا التكيف إما بالدراسات المختبرية بقياس محتويات سوائل الجسم المختلفة من دم وبول وغيرهما، أو الدراسات المجهرية بفحص أنسجة الكائن الحي.
- التكيف السلوكي:
هو تكيف يؤثر في سلوك الكائن الحي في بيئته استجابة للتغيرات الحادثة فيها.
سنتحدث في هذا المقال بشيء من التفصيل عن هذا النوع من التكيف.
التكيف عند النبات

تختلف النباتات عن الحيوانات اختلافًا كبيرًا؛ إذ لا تحتوي أجسامها على جهاز عصبي مركزي ولا يمكنها التحرك من مكانها؛ لذا كان تكيفها مع التغيرات البيئية مختلفًا جدًا عن بقية الكائنات الحية.
ومع ذلك، نجد أمثلة كثيرة على التكيف السلوكي والتركيبي للنباتات، فالنبات إما أن يتكيف ويعيش في المكان نفسه -الذي لا يقدر بطبيعة الحال على الانتقال منه- ويتكاثر فيه فيدوم تكيفه مدة أطول من تكيف الكائنات الحية الأخرى، أو لا يستطيع ذلك مطلقًا.
يتكيف النبات للحصول على الغذاء، فنجد الجذور تنمو في التربة وساقه وأوراقه تميل نحو الشمس، هذا يوضح التكيف السلوكي للنباتات.
ومن أمثلة التكيف الجسدي للنبات: وجود أشواك لدى بعض النباتات لتحميها من الافتراس.
التكيف السلوكي
وبعد أن عرفنا مفهوم التكيف وأنواعه؛ دعونا نتعرف المزيد عن التكيف السلوكي في الكائنات الحية.
ما هو التكيف السلوكي في الكائنات الحية؟
إن التكيف السلوكي هو تأقلم الكائن الحي مع ظروف بيئته وتغيرها بتغيير في أدائه بما يساعده على البقاء حيًا، تُعد هجرة الطيور تكيفًا سلوكيًا.
لذا يمكننا القول أن التكيف السلوكي هو نتيجة تطور أداء الكائن الحي لمواجهة صعوبات في بيئته فيتأقلم معها أو يتجه إلى بيئة جديدة تناسبه، ومن ثم فهو التغيير الذي يمر به الكائن الحي أو النوع بأكمله.
التكيف السلوكي للحيوانات

هو رد فعل الحيوان تجاه المؤثرات الخارجية، مثل تكيفه عن طريق:
- نمط حركته.
- ما يمكنه أكله.
- ما يستطيع حماية نفسه به.
مثلًا: يتكيف الدب سلوكيًا؛ فنجده:
- يستخدم مخالبه الحادة وأسنانه الكبيرة القوية لتمزيق فريسته.
- يستغل قوة حاستي السمع والشم ليصطاد فريسته.
- يمتلك كفين سميكين يشبهان في ملمسهما الصنفرة يستخدمهما في الجري على الجليد الزلق.
التكيف السلوكي للطيور
تُظهر الكثير من الطيور تكيفًا سلوكيًا بيئيًا، وتختلف طريقة التكيف باختلاف نوع الطائر والمتغيرات والظروف المحيطة.
فمن الطيور من يبدي تصرفات تكيِّفه مع برودة الجو، وأنواع أخرى تتكيف مع درجات الحرارة المرتفعة.
والسبات والهجرة يعدان أيضًا من مظاهر التكيف السلوكي للحيوانات، فنجد مثلًا أسراب أنواع من الطيور تهاجر جنوبًا في الشتاء حيث المزيد من الطعام.
الإنسان بين التكيف السلوكي وسوئه
يحتاج الإنسان إلى التكيف السلوكي ليستطيع التأقلم في بيئته، لكن محاولاته قد لا تنجح على الدوام.
اعتمد علماء علم النفس على التكيف السلوكي للإنسان كقانون رئيس، وهذا القانون أوضح عددًا من المبادئ كالآتي ذكرها على سبيل المثال لا الحصر:
- عاطفة البشر ومشاعرهم ساعدت في التواصل فيما بينهم.
- في مرحلة المراهقة يظهر الإنسان زيادة في السلوكيات التنافسية بين الجنسين.
- تشكل بيئة الفرد المبكرة من حيث درجة الاستقرار نهجه إن كان سريعًا أم يريد التأني في الحياة، مثل التكاثر ورعاية النشء.
ولكن كان لكثرة التغييرات التي يواجهها الإنسان وتعددها أثر في صعوبة تكيف الإنسان سلوكيًا؛ فالتغيير لديه يشمل الأفكار والمعتقدات والقيم والثوابت، التي تختلف باختلاف المجتمع الذي يعيش فيه والذي قد يختلف كثيرًا عن مجتمع أجداده وأبائه، مما تسبب في سوء تكيف سلوكي.
ومن الأسباب الأخرى لسوء التكيف السلوكي:
- عدم وجود أمثلة أو خبرات حياتية نقتدي بها.
- فوضوية الحياة التي تعوق التأقلم وتطور المهارات.
- صدمة الإصابة بمرض مزمن أو إعاقة مستديمة.
- الاعتداء الجنسي على الأطفال.
- الأشخاص الذين يعانون تأخرًا في النمو أو اضطرابات في النوم.
- يؤدي أسلوب “التجنب” إلى راحة مؤقتة يتبعها قلق، ويحدث ذلك التجنب بسبب سوء التكيفِ السلوكي مع الخوف والقلق المرافقين للموقف الذي تعرضنا له.
- تؤدي بعض الاضطرابات (مثل التوحد) إلى تكيف سلوكي سيئ يشيع فيه العصيان والعدوانية ونوبات الغضب.
تُعَد المشاعر من أهم دوافع تكيف السلوك، ويؤدي سوء التكيف إلى أمور وخيمة تبدأ بالقلق والتوتر وتصل إلى الاكتئاب.
وقد تسوء علاقتك بالآخرين أحيانًا، وربما تفكر في إيذاء نفسك أو تقدم على فعل ذلك بالفعل.
ويلجأ فريق ممن ساء تكيفهم إلى الإدمان، وقد تصل الأمور إلى الانتحار أو ارتكاب الجرائم الأخلاقية.
عزيزي القارئ…
إن ظهرت عليك علامات تدل على سوء تكيف السلوك، فينبغي لك طلب المساعدة من المختصين، وهم:
- الأطباء النفسيون.
- الاختصاصيون الاجتماعيون.
- معالجو الإدمان.
- مختصو العلاقات الأسرية والاجتماعية.
عزيزي القارئ…
سوء التكيفِ السلوكي يعوق تطورك الشخصي وتأقلمك مع الحياة، فإذا وجدت من نفسك انسحابًا أو ميلًا إلى العدوانية فهذا نذير يحثك على ضرورة إيجاد سلوكات بديلة لحياة أفضل.
في ختام القول…
نجد أن التكيف هو وسيلة للنجاة من مؤثرات وعوامل مهلكة، وهو السبيل لحدوث تطور الكائنات الحية على مر العصور.
ولقد عرفنا أن التكيفَ السلوكي للإنسان هو أساس تطور الأنماط الاجتماعية والعادات الإنسانية والاتصال والتواصل بين الأفراد، فيصبح الأجدر بمواجهة التحديات وإعمار الأرض.