الحب غير المشروط.. مودة خالصة دون أي قيود!

قِيل في الأثر: “في داخل أعماق كل منا، في قلوبنا نزعة إنسانية قديمة قِدم الكون ونشأته، حدس دفين بداخلنا يدفعنا نحو تقديس الحب غير المشروط وتقديمه لمَن يهواه القلب. وفوق كل ذلك… نقدِّره قدر الحياة في ذاتها!”.
هل يمكن أن تحب شخصًا دون قيد أو شرط؟ هل الحب غير المشروط مرتبط فقط بحب الآباء والأمهات لأطفالهم؟! وهل الحب غير المشروط مؤذٍ وضار بصاحبه؟
لنتعرف معًا إلى إجابات تلك الأسئلة في هذا الترياق…
الحب غير المشروط… ما هو؟
يمكن تعريف الحب غير المشروط على أنه ببساطة:
“عطاء دون توقف، حب من غير أي قيود أو شروط، محبة تمنحها لمن تحب دون مقابل، فعل مليء بإيثار غيرك على ما تريد لنفسك، تفعل المستحيل لتمنح مَن تحب السعادة دون أي شرط، سوى أنك تحبه فقط!”.
لا يهتم الحب غير المشروط بما يُقدَّم له في المقابل مطلقًا، كل ما يهم أن تحب مَن حولك ولا يهمك شيء سواء سعادتهم. ويمكن تشبيه هذا النوع من الحب ب”العطاء” أو “الحنان العاطفي”، مثل الذي يأتي إلى خاطرك الآن وأنت تقرأ كلمات المقال، وهو حب والديك لك، أو حبك لطفلك.
بينما يربط معظم الناس الحب غير المشروط بحب الوالدين للأطفال فقط، هناك مَن يحاول ربط الحب غير المشروط بالحب الرومانسي بين الزوجين، أو حب الأصدقاء لبعضهم البعض، الأمر الذي يطرح تساؤلات كثيرة، منها التالي:
- هل انتظارك شخصًا ما ليحبك أنت فقط -مهما كانت ظروفك- أمر طبيعي ومرغوب؟
- هل الحب غير المشروط من نوعية الحب الرومانسي لا يوجَد إلا في الخرافات والأساطير القديمة، وبعيد كل البعد عن أرض الواقع؟
- هل الحب غير المشروط هو أساس النجاح في أي علاقة بين طرفين مهما كانت شخصيته؟ وما تأثيره في صحتك النفسية؟
دعنا -عزيزي القارئ- نحاول الإجابة على تلك الأسئلة في السطور القادمة…
علامات وفوائد الحب غير المشروط
هناك بعض العلامات والدلائل على الحب غير المشروط، أهمها التالي:
- استقرار الصحة النفسية والعاطفية
“الحب غير المشروط معدٍ، ينتقل إلى الآخرين دون سابق إنذار، ويعد أعلى درجة من درجات الروحانية والإنسانية”.
تود الحصول على المزيد من المقالات المجانية على ترياقي؟ اشترك الآن ليصلك كل جديد!
في دراسة أُجرِيَت في عام 2009، لمعرفة الأجزاء التي تُحفَّز في المخ عند الشعور بعاطفة الحب غير المشروط، جاءت نتيجتها أن شعور الحب غير المشروط يحفز نفس أجزاء المخ التي يحفزها شعور الحب الرومانسي.
ببساطة، ذلك الفعل البسيط -أي أن تحب شخصًا ما دون شروط- كفيل بأن يمنحك مشاعر إيجابية، ويساعد على استقرار صحتك النفسية والعاطفية.
- الشعور بالأمان والطمأنينة
“شعورك أن هناك شخصًا ما يحبك ويقف بجوارك دائمًا، ولن يتركك مهما حصل، يمنحك الثقة والاطمئنان”.
يوفر الحب غير المشروط شعورًا بالأمان ينعكس عليك في صغرك وعندما تكبر؛ اطمئنانك أن أبويك يحبانك مهما حدث -ومهما فعلت من أخطاء- يجعلك تشعر بالراحة والهدوء النفسي، بل ويساعدك على على التعلم من أخطائك مستقبلًا.
- الإيثار على النفس
“فعل الخير للغير من أجل دعمهم وسعادتهم، حتى لو على حساب نفسك”.
الإيثار في الحب غير المشروط، يعني ألا تفكر في الفائدة العائدة عليك من محبتك لغيرك؛ فحبك له في حد ذاته مكافأتك المرجوة، وجائزتك المنشودة. وهذا الأمر لا يمكن تطبيقه عمليًا في العلاقات الرومانسية، أو علاقات الصداقة المبنية على النفع المتبادل بين الأفراد.
وهنا يأتي سؤال مهم: “هل الحب غير المشروط ممكن الحدوث؟”…
الحب غير المشروط… ممكن أم مستحيل!
إذا بدأت تفكر في أن الحب غير المشروط عملية معقدة، وغير واردة الحدوث في العلاقات الإنسانية مهما كانت طبيعتها، فمن الممكن أنك محق ومخطئ في ذات الوقت.
يقول أحد علماء النفس أن حتى الحب غير المشروط الذي يمنحه الأب لابنه هو حب مشروط؛ ابنك الذي تحبه دون شرط -مهما بدر منه من أفعال متباينة- أنت تحبه لأنه ابنك، ملك لك!
حسنًا، قِس على ذلك علاقة الزوج بزوجته، أو علاقة الصديق بصديقه، … إلخ.
لماذا تحب زوجتك؟ هل لأنها جميلة؟ مرحة؟ ذكية؟ أم لقلبها الطيب؟!
لِمَ تحب صديقك؟ هل لأنه صادق؟ خدوم؟ غني؟ أم لأن طباعه مماثلة لطباعك؟!
كلها علامات انجذاب واضحة وصريحة، لكن ماذا لو لم تَعُد موجودة؟ هل حبك لهم سينتهي؟! هل حبك لهم سيتغير؟!
من وجهة نظر فلسفية بحتة، لا يمكن أن تحكم أبدًا على طريقة حبك غير المشروط لهم إذا لم تتغير تلك الصفات. على أرض الواقع، الحب الصحي يتغير مع مرور الوقت، لينضج ويصبح أكثر مرونة إذا ما كان غير مشروط في البداية. لكن إذا كان مجرد إعجاب لصفات متغيرة، فمن الممكن بنسبة كبيرة أن يختفي ويضمحل تمامًا إذا ما تغيرت تلك الصفات.
كيف يمكن تطبيق الحب غير المشروط عمليًا على أرض الواقع؟
نعلم أن الحب متغير، تمامًا مثل طباع البشر؛ أنت اليوم شخص آخر لم تكُنه منذ سنين، وصديقك أو شريكة حياتك كذلك، لا يمكن لك أن تحبهما بنفس الطريقة والأسلوب كما في البدايات. لكن هناك بعض النصائح التي يمكن أن تساعدك على إبقاء شعلة الحب مضيئة، وأن تجعل ذلك الشعور مستمرًا ودائمًا، ومنها:
- امنح الطرف الآخر الاحترام، حتى لو لم يعجبك رأيه
أنت وزوجتك -أو أنت وصديقك- شخصان مختلفان تمامًا، لكل منكما وجهة نظر، عوِّد نفسك -حتى في نقاط الاختلاف- أن تجعل الأمر موضوعيًا وليس شخصيًا، أن تخبر الطرف الآخر أنك غير متفق معه في ذلك الأمر، إلا أنك ما زلت تكن له كل الاحترام والتقدير والحب.
- درِّب نفسك على التواصل الاجتماعي الصحي
التواصل الاجتماعي والنفسي الصحيح بين الطرفين مبني على: الثقة، الصدق، الوضوح والشفافية. حديثك مع الطرف الآخر بشكل سليم يقوي من الحب والتقدير بينكما، ويبني جسورًا من الحب الناضج والصحي.
- قدِّم الدعم النفسي والعون للطرف الآخر
إذا وجدت الطرف الآخر الذي تحبه: يعاني، يتألم، أو في ضيق نفسي، استمع له وكُن مهذبًا وقدِّم يد العون والمساعدة له، وأظهر مشاعر الحب والتعاطف تجاهه؛ فالحب المتبادل بينكما سيجعل مثل تلك الأفعال تُرَد إليك أضعافًا إذا ما احتجت إليه مستقبلًا.
الحب غير المشروط لا يصلح للعلاقات العاطفية!
كما ذكرنا سابقًا، فحب الأم لطفلها حب غير مشروط؛ مهما بدر منه من أخطاء، فهناك نقطة بيضاء في قلبها تجاهه. وبمجرد أن ينتهي الأمر، يتجدد الحب مع أول بسمة منه لها.
لكن، في حالة العلاقات العاطفية بين الزوجين!
الحب بين الزوجين له شروط، وتلك الشروط مثل العوائق التي تجعل الحب غير المشروط صعب التطبيق بينهما. حبك لشريك حياتك في السراء والضراء أمر جميل وتضحية عظيمة، لكن ليس في المُطلَق؛ فإذا كانت معاملة طرف للآخر سيئة وغير مبنية على الاحترام والتقدير مهما كانت الظروف، فذلك يُنشِئ جوًّا غير صحي وعلاقة عاطفية غير مستقرة. وفي حال لم يخبرك أحد، إليك تلك النصيحة من “تِرياقِي”:
“أنت غير مجبر أبدًا على البقاء في علاقة عاطفية مع شخص يعاملك بجفاء أو سوء، مهما أخبرك أنه يحبك، ومهما كانت درجة محبته لك، ومهما كانت مدة بقائك معه. ما دامت العلاقة العاطفية غير مبنية على الحب المتبادل، فهي علاقة سامة، ولا بُدَّ لها من نهاية”.
ختامًا…
في حين أن الحب شيء والعلاقة بين الطرفين شيء آخر، فالأهم من ذلك هو فهمك أن طبيعة الحب المتبادل مبنية على المودة والرحمة، وليس فقط مشاعر الحب المتغيرة.
ونختم حديثنا بالآية القرآنية المبارَكة التي لخَّصت لنا معنى الحب غير المشروط:
“وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ”.