مفاهيم ومدارك

هل السلوك يورث؟ | هل لديك جينات قاتل؟

“كيف يفلت قاتل زوجته بالساطور من العقاب؟”!

في حادثة فريدة، أصدرت هيئة المحلفين قرارها بإسقاط تهم القتل العمد والشروع في القتل عن (ديفيد والدروب – David Waldrop)، وعدَّت الجريمة بأنها قتل عن طريق الخطأ.

اتُّهِم (والدروب) بقتل زوجته بالساطور، والشروع في قتل صديق زوجته بإطلاق 8 رصاصاتٍ عليه.

نجا الأخير بأعجوبة، وكان الشاهد الرئيس في هذه القضية. وعلى الرغم من توافر الأدلة الجنائية لإدانة (والدروب)، إلا أن هيئة المحلفين وجدوه غير مذنب.

كيف حدث هذا؟!

استند محامي الدفاع إلى أدلة علمية تفيد بتأثير الوراثة في السلوك، وبنى دفاعه على وجود “جين المحارب” عند (والدروب)، والذي كان السبب في ميوله العدوانية.

وجود هذا الجين وحده لم يكن كافيًا لبراءة (والدروب)، فاستغل المحامي معاناة طفولته لجذب تعاطف هيئة المحلفين.

وبالفعل، اقتنع المحلفون بأن ارتكاب (والدروب) للجريمة كان خارجًا عن إرادته، وكانت لطبيعته البيولوجية اليد العليا.

بعيدًا عن قاعة المحاكم، وأساليب المحامين في التلاعب، هل السلوك يُورَّث حقًا؟ هذا ما سنحاول اكتشافه معًا…

ما هو السلوك؟

سلوك الإنسان هو النشاط الصادر منه استجابةً لمحفزاتٍ أو مثيراتٍ داخلية و خارجية، وتكون تلك الاستجابة قابلةً للقياس. وعلى هذا، يشمل تعريف السلوك كل التغيرات:

تود الحصول على المزيد من المقالات المجانية على ترياقي؟ اشترك الآن ليصلك كل جديد!

  • الحركية الإرادية، مثل العدو عند الخوف.
  • الفسيولوجية، مثل آلام المعدة عند الجوع.
  • الانفعالية، مثل الضحك عند الفرح.
  • اللفظية، كالتعبير بالكلام أو الصياح.

إذًا، فسلوك الإنسان يشمل كل ما يشعر به، وما يصدر عنه من أفعال وأقوال. ويتميز السلوك بديمومة التغير حسب مقتضيات الظروف، وازدياد الحصيلة المعرفية والنضج.

والسلوك ما هو إلا وسيلة لتحقيق الهدف؛ فحين تسحب يدك بسرعة من فوق الموقد الساخن، فهدف السلوك هو حماية بشرتك من الإصابة بالحروق.

إذًا، هل السلوك يُورَّث؟ لنعرف أولًا ما هي العوامل التي تحدد سلوك الإنسان…

العوامل المؤثرة في سلوك الإنسان

درس العلماء سلوك الإنسان لفترات طويلة لمحاولة فهم العوامل الأساسية المؤثرة في سلوك الإنسان. ومن هذه العوامل:

التأثير البيئي

بعض مدارس علم النفس تؤمن بأن العامل الأوحد المؤثر في سلوك الفرد هو طبيعة البيئة التي يعيش فيها.

وتشمل البيئة كل ما يتعرض له، مثل علاقته بمَنْ حوله، ونوعية الطعام الذي يتناوله، وطبيعة المجتمع الذي يعيش فيه.

الوراثة

بعض الدراسات توضح أن للوراثة العامل الأكبر، واعتمدت تلك الدراسات على التغيرات الكيميائية في النواقل العصبية للدماغ عند المجرمين، مما دفع العلماء للربط بين السلوك الإجرامي ونسب المواد الكيميائية في المخ.

السلوك بين الوراثة والبيئة

وتُعَدُّ هذه النظرية الأحدث، وتجمع بين سابقتيها إذ تقول بأن السلوك أساسه جيني وراثي، لكن تلك الجينات تحتاج للعوامل البيئية لتظهر على السطح.

الوراثة عند الإنسان

الوراثة عند الإنسان

هل فكرت يومًا في سبب التشابه الكبير بين الأطفال وآبائهم؟ إنه بسبب حصولهم على المادة الوراثية من الآباء؛ فهم يحصلون على نصفها من الأب، والنصف الأخر من الأم.

والمادة الوراثية توجَد في كل خلية من خلايا الجسم -بداخل النواة- على هيئة أجسام صبغية تتكون من شرائط طويلة ملتَفَّة تُسمَّى “DNA“.

ويحتوى الـ(DNA) على كل المعلومات الوراثية التي يرثها الطفل من أبويه في صورة جينات.

وكل جين مسؤول عن تكوين مواد كيميائية، أو تحفيز نشاط خلايا معينة، أو أي عملية حيوية أخرى تهدف لأداء الجسم وظائفه على أكمل وجه.

واكتشاف العلماء للـ(DNA) سمح لهم بدراسة الوراثة عند الإنسان على مستوى أعمق، في محاولة للإجابة عن تساؤل “هل السلوك يُورَّث؟”.

هل السلوك يُورَّث؟

تحدد الجينات الوراثية -أو الـ(DNA)- شكل الفرد، ومظهره، وصفاته، بل ونوعه إن كان ذكرًا أم أنثى.

وكذلك يُعتقَد على نطاقٍ كبير أن تأثير الوراثة في السلوك لا يقل أهمية عن تأثيرها في تحديد جنس الفرد، إذ توصل الباحثون للعلاقة بين الجينات الوراثية وبين صفات الشخصية، مثل:

  • نسخ الجسم الصبغي رقم 21 (ليصبح العدد الإجمالي للأجسام الصبغية 47 بدلًا من 46) يؤدي إلى متلازمة داون، والتي تتشابه في الصفات والسمات الشخصية لحدٍ كبير.
  • زيادة كروموسوم X في الذكور تؤدي إلى متلازمة كلاينفلتر، ويتشابهون في الصفات والسمات كذلك.

دفعت تلك الأمثلة العلماء لدراسة تأثير الوراثة في السلوك عن كثب، وعما إن كان هناك جينٌ مسؤول عن العبقرية، أو آخر مسؤول عن النزعة الإجرامية.

ومن المدهش أن واحدة من الدراسات توصلت لوجود جينين وراثيين يساعد وجودهما على تفاقم النزعة الإجرامية لدى الأفراد، وهما:

  • جين المحارب: جين ماوا (MAOA)، مسؤول عن تشفير إنزيم أكسديز أحادي الأمين.
  • جين (CDH13): مسؤول عن تشفير أحد عناصر الالتصاق بين الخلايا.

ارتبط خلل جين المحارب باضطراب مستويات الدوبامين والسيروتونين بالعقل، وبالتالي ميل الفرد إلى النزعة الإجرامية.

أما غياب جين (CDH13)، فقد ارتبط بمرض فرط الحركة ونقص الانتباه، وتعاطي المخدرات، والأمراض النفسية مثل الاكتئاب، وهذه الحالات تساعد على ارتفاع النزعة الإجرامية لدى الأفراد.

إذًا، هذا يدعم القول بتوريث السلوك، لكن ماذا عن البيئة؟

العوامل البيئية المؤثرة في السلوك

البيئة هي كل العوامل الخارجية التي تؤثر في الإنسان، منذ ولادته وحتى مماته. وبمعنىً آخر، هي كل ما لم يكن وراثيًا. وتشمل العوامل البيئية المؤثرة في سلوك الأفراد:

  • الجانب الاجتماعي المتمثل في الأسرة، والمجتمع.
  • البيئة المحيطة، سواء كانت طبيعية أو صناعية حديثة.
  • المستوى الثقافي المحيط.
  • النظم والمؤسسات التعليمية.
  • التكوين الداخلي لجسم الفرد، وحالة الصحة أو المرض.
  • عوامل التلوث البيئي.

وتؤثر البيئة في السلوك سلبًا أو إيجابًا حسب طبيعة هذه البيئة وما تتبناه من رؤى.

وعلى الرغم من ذلك، تتباين استجابة الأفراد للمؤثرات البيئية الواحدة، وهذا الاختلاف في الاستجابة قد يكون مرجعه وراثيًا. فهل السلوك يورث حقًا؟ وأيهما يؤثر أكثر، الوراثة أم البيئة؟

السلوك بين الوراثة والبيئة

دامت الدراسات والنقاشات لفترة طويلة، وكانت التساؤلات: هل تتحكم جيناتنا في مصير صفاتنا، وتحدد سلوكنا كالقدر المكتوب على الجبين؟ أم أن البيئة هي العامل الأوحد لتحديد سلوكنا؟

ثبت أخيرًا أن الوراثة والبيئة في علم النفس لا غلبة لإحداهما على الأخرى، وأن سلوك الإنسان هو نتاج لطبيعته الجينية، مع تعرضه للمحفزات والمثيرات البيئية.

ويمكن تفسير الارتباطات بين الوراثة والبيئة في علم النفس بثلاثة أنواع:

1. الارتباط السلبي بين الجينات والبيئة

يصف الارتباط السلبي العلاقة بين التأثيرات البيئية التي يصنعها والد الطفل، لتحفيز الجينات التي ينقلها نفس الوالد إلى الطفل.

فمثلًا: جنين الأم المدخنة أكثر عرضة للإصابة بمرض نقص الانتباه وفرط الحركة؛ فتدخين الأم محفز بيئي يؤثر في الطفل وهو في رحم أمه.

لكن هذا التأثير -على الأغلب- لن يؤدي لإصابة الطفل بمرض نقص الانتباه إلا في وجود جين محدد، وهذا الجين ورثه الطفل من أمه، ويُلاحَظ أنه أيضًا يزيد من قابلية إدمان الشخص للتدخين.

إذًا، الأم المدخنة تملك الجين الذي يحفزها على إدمان التدخين، وورثته لطفلها، ثم حفزت الجين بتأثيراتٍ بيئية في الطفل، ألا وهي التدخين.

فزادت فرصة إصابة الطفل بمرض نقص الانتباه وفرط الحركة وراثيًا، وبيئيًا، وسلبيًا بدون أي تدخلٍ منه.

2. الارتباط الاستفزازي بين الجينات والبيئة

يحدث هذا الارتباط عندما يؤدي سلوك الفرد الموروث إلى تغيرات في طريقة تعامل البيئة معه.

أوضح مثال على هذا هو عندما يكبر الطفل قليلًا، ويقرر التصرف حسب طبيعته، مما يؤثر في طريقة تعامل الوالدين معه.

فالطفل الذي يرفض أوامر والده -انطلاقًا من جينات العِند الموروثة- معرضٌ لنيل العقاب من الوالد، وهذا العقاب يُعَدُّ تغييرًا بيئيًا حدث نتيجة استفزاز الطفل للبيئة بممارسة سلوك موروثٍ جينيًا.

3. الارتباط الإيجابي بين الجينات والبيئة

الارتباط الإيجابي يحدث عندما يقرر الشخص تغيير بيئته انطلاقًا من سلوكه الموروث، مثل قرار الالتحاق بمدرسة الموسيقى بسبب حبه للعزف.

ومع نضج المرء، وزيادة وعيه برغباته وسلوكه الموروث، يزداد ارتباطه الإيجابي ببيئته.

وأخيرًا عزيزي القارئ، لا تنسَ أن الإنسان يملك الإرادة الحرة في سلوكه، سواء الموروث أو المكتسَب، فلا تملَّ من طلب العلا أبدًا!

المصدر
Epigenetics: the link between nature and nurtureEpigenetics – It’s not just genes that make usBrad Waldroup Jr. Found Guilty on All Counts
اظهر المزيد

Hamas AbdelGhaffar

أهلًا بك، اسمي حماس وأدرس الطب البشري.. يتغير العالم بي وبك، بتلك الخطوات الصغيرة التي نبنيها معًا، فإن قرأت يومًا سطرًا لي وأضاف إليك، فهذا تمامًا ما أسعى إليه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى