الصراع بين العمل والحياة الأسرية

– الساعة الآن الواحدة بعد منتصف الليل، أين كنتِ حتى هذه الساعة المتأخرة؟!
= عشاءُ عمل… كنتُ في عشاءِ عمل وها قد عُدت؛ ألديك سؤال آخر؟!
– تتحدثين وكأنه أمر طبيعي! تزوجنا منذ 10 سنوات وما زِلتِ تبذلين قصارى جهدكِ في العمل، مهملةً أبناءك وحقوقي الزوجية، إلى متى يستمر هذا الأمر؟!
= هذه حياتي ومستقبلي الذي رسمته لنفسي، ولن أستطيع تحقيق التوازن بين العمل والحياة الأسرية، وهذا ما لدي فافعل ما شِئت!
لحظة صمت تسود المكان…
يدخل بعدها الابن بخطوات تتناسب مع حجمه الضئيل، ثم يتكلم بصوت هزيل: “أمي، لدي استدعاء لكِ غدًا في المدرسة لمقابلة المديرة”.
= ما صدر منك أيها الفتى الشقي كي أُستدعَى؟!
– تكرَّر حصولي على علامات سيئة في الاختبارات، وهم مصرون على حضوركِ غدًا. تعملين طيلة الوقت يا أمي، وأبي يذهب إلى العمل صباحًا ويعود في المساء مُجهَدًا يدخل غرفته لينال قسطًا من الراحة، ولا أجد مَنْ يهتم بي وبدروسي!
نظر الأب والأم إلى بعضهما وعلما أن هذا نتيجة الصراع بين العمل والحياة الأسرية، والذي أودى بحياتهما إلى حافة الهاوية.
نتحدث معًا عن الصراع بين العمل والحياة الأسرية، وأنواعه، وأهم أسبابه، ثم نذكر أهم الأمور التي تساعدنا على التخلص من هذا الصراع المرير.
تود الحصول على المزيد من المقالات المجانية على ترياقي؟ اشترك الآن ليصلك كل جديد!
ما الصراع بين العملِ والحياة الأسرية؟
تغير الزمان، وتغيرت معه المفاهيم التي اعتدناها لفترات طويلة؛ فها نحن نتابع الحركات النسائية التي تدعو لاستقلالية المرأة تمامًا عن الرجل. وفي الجانب الآخر، نجد ذا الرجل الكادح الذي يسعى لكسب العيش، فيفني جلَّ عمره في العمل.
وبين هذا وذاك، ظهر نوع جديد من صراع الأدوار بين الرجل والمرأة على مختلف الأصعدة، أبرزها الحياة الأسرية التي نالت نصيبًا ليس بالقليل من هذا الصراع.
فالصراع بين العمل والحياة الأسرية هو ذلك الصراع بين الأدوار الذي يظهر نتيجة عدم توافق ضغوط العمل مع الواجبات الأُسَرية، مؤديًا إلى التقصير في حق أحدهما.
وعلى الأرجح، يكون التقصير في حق الأسرة -وما تتضمنه من الزوجة والأبناء، أو الأقارب من الدرجة الأولى وغيرها من مختلف الدرجات- هو الأمر السائد.
أنواع الصراع بين العملِ والحياة الأسرية
هناك ثلاثة أنواع أساسية للصراع بين العمل والحياة الأسرية، كما ذُكر في أدبيات جرين هوس وبيوتل الصادرة في عام 1985، وهي:
- الصراع بين العمل والحياة الأسرية القائم على الوقت
وهنا تظهر مشكلة عدم القدرة على تحقيق التوازن بين الأسرة والعمل، إما بسبب زيادة متطلبات العمل فتقل المدة التي تقضيها مع أسرتك، أو العكس.
وقد يعود السبب في ذلك إلى احتياج أحد الطرفين -العمل أو الأسرة- إلى مجهود جسدي شاق، وبالتالي يؤثر في حق الطرف الآخر.
- الصراع بين العمل والحياة الأسرية القائم على التوتر والإجهاد
وهو نتيجة طبيعية للانخراط في تلبية متطلبات الحياة؛ فأحيانًا -على سبيل المثال- ينتظر الشخص ترقية في العمل، فيزيد من مجهوده الذهني والجسدي ويكثر التفكير في الأمر، مما يؤدي إلى الإجهاد والتوتر اللذين يؤثران بالسلب في العمل، وكذلك العكس مع اختلاف الأمثلة.
- الصراع بين العمل والحياة الأسرية القائم على السلوك
وينتج عن تضارب السلوكيات التي يتطلبها العمل مع تلك التي تتطلبها الأسرة، كأن يكون الأب -مثلًا- مديرًا في عمل شاق ويحتاج إلى الحزم والشدة في الإدارة، عكس ما يُنتظَر منه مع أفراد أسرته من المودة والرفق. وهنا تحدث المفارقات والصراعات السلوكية بين طرفي النزاع.
أسباب الصراع بين العملِ والحياة الأسرية

وبالحديث عن أسباب الصراع بين العمل والحياة الأسرية، نجد أنها تتمحور حول ثلاثة أعمدة أساسية، وهي:
- أسباب مرتبطة بالعمل، ومن أمثلتها:
- نوع العمل.
- مدة العمل الرسمية والالتزام بها.
- المشاركة الوظيفية مع الزملاء.
- العمل وقتًا إضافيًا.
- مرونة العمل.
- أسباب مرتبطة بالأسرة، مثل:
- عدد الأطفال.
- الأشخاص المَعُولِين، كالوالدَين مثلًا.
- دورة الحياة الأسرية.
- مشاركة الأسرة في أعمالها.
- ترتيبات رعاية الأطفال والأشخاص المَعُولين بصفة عامة.
- أسباب مرتبطة بالشخص ذاته، مثل:
- النوع؛ ذكر أم أنثى.
- شخصية الإنسان ذاته.
- القيم التي يمتلكها الشخص.
- الكمالية.
ثم لا ننسى أهم الأسباب، وهي عدم التفهم بين أفراد الأسرة لظروف بعضهم البعض؛ فربما تكون الحياة قاسية، وقليل من التفهم يجنب الكثير من الصراعات والنزاعات.
أثر الصراع بين العملِ والحياة الأسرية في الحالة النفسية
إذا تصورنا أن هناك ثلاثة أعمدة رئيسة (وهي: العمل، والأسرة، والصحة النفسية للشخص ذاته) يقوم عليها مبنى كامل (وهو الحياة)، فإن تأثَّر أحدها يختل توازن البناء، بل ويسقط رأسًا على عقب؛ وأهم هذه الأعمدة الصحة النفسية.
لذا، نجد أن أثر الصراع بين العملِ والحياة الأسرية في الحالة النفسية له بالغ الأثر على المدى القريب والبعيد، وهو مما يجب التنبه له باكرًا قبل وقوع ما لا يُحمد عقباه.
فكما ذكرنا، إن الحياة عقد مُحكَم من ثلاث حبات. فإذا انفرطت إحداها، توالت الباقيتان بالسقوط.
وقد كشفت بعض الدراسات عن أن الصراع بين العملِ والحياة الأسرية يزيد من الإرهاق العاطفي وانخفاض الرضا الوظيفي، الأمر الذي يؤثر سلبًا في الصحة النفسية، وكذلك العمل والأسرة على حد سواء.
فقد يصاب الإنسان من جراء ذلك الصراع المحتدم ببعض الاضطرابات والأمراض النفسية، وأشهرها:
- الاكتئاب الذي يمتد إلى الاكتئاب في مكان العمل.
- القلق.
- التغيرات المزاجية.
- تغيرات ملحوظة في أنماط الشخصية قد تصل إلى الشخصية الحدية أو الشخصية التصادمية.
- الميول الانتحارية في بعض الأحيان.
اقرأ أيضًا اضطراب الشخصية الحدية والتقلبات المزاجية!
ناهيك عن المشكلات الصحية والاجتماعية، ومشكلات العمل التي يتعرض لها الشخص نتيجة ذلك الصراع، وأهمها:
- الإرهاق والتوتر.
- سوء تربية الأبناء.
- الطلاق.
- قلة الحماسة للعمل لدرجة قد تصل إلى ترك العمل.
- عدم الرضا عن الحياة ولو كانت ملأى بالإنجازات.
- بعض الأمراض العضوية من أثر الضغط النفسي، مثل: ارتفاع ضغط الدم، والسكري، وأمراض القلب المتنوعة، وضعف الانتصاب النفسي.
- خسارة الأهل والأصدقاء تدريجيًا، وبالتالي الشعور بالوحدة.
الأمر ليس بالهين، ويحتاج مِنَّا لوقفة جدية مع النفس وإعادة الحسابات من جديد لتجنب المخاطر المحتملة.
كيفية تحقيق التوازن بين الحياة الأسرية والعمل

مما سبق نستنتج أن تحقيق التوازن بين الحياة الأسرية والعمل أمر بالغ الأهمية على كل المستويات.
وعليه، نقدم إليك -عزيزي القارئ- بعض الأمور التي تساعدك على استعادة التوازن بين الحياة الأسرية والعمل، والخروج من ذلك الصراع بأقل الخسائر، ونذكرها فيما يأتي:
- نظِّم وقتك، وحدِّد ساعات العمل وكذلك ساعات الجلوس مع الأسرة.
- رتب أولوياتك.
- تعلَّم الفصل بين العمل والحياة الشخصية.
- تعرَّف إلى نقاط قوتك ونقاط ضعفك جيدًا.
- التزم ممارسة الرياضة يوميًا.
- خصِّص وقتًا للاختلاء بنفسك.
- افعل أمرًا تحبه، كالقراءة مثلًا.
- كن واقعيًا، ودع أحلام اليقظة وتسويف الأمور.
- اقتطع من وقتك الثمين يومين للسفر مع أسرتك.
ختامًا عزيزي القارئ…
العمل لا بُدَّ منه، وطريق النجاح مرسوم أمامك وستصل إليه حتمًا، لكنك لم تُخلَق من أجل العمل فحسب!
وقد صدق مَنْ لا ينطق عن الهوى إذ قال لأحد أصحابه ممَّنْ انقطع للعبادة وأهمل أهله: “إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ”!