الموهبة | هبة؟ أم اكتساب؟

هل سبق لك أن استمعتَ إلى مقطوعة موسيقية رائعة أخذت عقلك وجوارحك؟!
هل تأملتَ قبل ذلك لوحًة فنية وتعجبتَ كيف تضاهي الواقع بدقة؟! وكيف استطاعت أن تجسد مشاعرنا؟!
هل التقيتَ بأحد أبطال الرياضة، وانبهرتَ بقدراته وأرقامه القياسية؟!
إنها “الموهبة”، التي قد تُنتج تراثًا خالدًا وتجعل من صاحبها نجمًا يعانق السماء!
يقـــول الدكتور (يسري عبد المحسن) أستاذ الطب النفسي: «داخل كل منا قدرات، قد يخرج بعضها إلى دائرة الضوء، حيث يستفيد منها الشخص ويُفيد، وقد يظل بعضها كامنًا في دائرة الظلام، لا يتم اكتشافه على مدى حياته».
يتمنى كل منا أن يوصف بالإبداع، وأن تكون لديه القدرة على التفكير بطريقة مختلفة وإيجاد حلول مبتكرة.
وتصبو الأمهات كذلك إلى رؤية أبنائهن يتمتعون بالمواهب المختلفة، التي تعزز قدراتهم في المجتمع وترفع من ثقتهم بأنفسهم.
فهل دائمًا ما تتحقق أمنياتنا؟!
ولماذا يتصف بعضنا بالموهبة والإبداع والقدرات الذهنية العالية، في حين يبدو أداء الآخرين طبيعيًا أو غير مميز؟
وهل تحتوي الجينات الخاصة بنا على شفرات الذكاء والإبداع فنحظى بهما منذ الطفولة؟ أم إنها مهارات نتعلمها ونكتسبها خلال حياتنا؟
تود الحصول على المزيد من المقالات المجانية على ترياقي؟ اشترك الآن ليصلك كل جديد!
لتأتِ معي -صديقي القارئ- في رحلة عبر هذا المقال، نتحرر من القيود التي يفرضها الزمان والمكان، ونعبر معًا إلى ما وراء العُرف والمألوف، ونرى كيف يستطيع أحدهم أن ينشق عن التسلسل التقليدي في التفكير والأداء، إلى تفكير إبداعي مختلف ومواهب تثري العلوم والفنون.
تعريف الموهبة والإبداع
لسنوات عديدة، ربط علماء النفس -مثل لويس تيرمان– الإبداع أو الموهبة بمعدل الذكاء المرتفع.
حتى وضع العلماء فيما بعد مفاهيم وتعريفات متعددة للموهبة والإبداع، نذكر أبرزها:
يُعرَّف الإبداع بأنه الميل إلى توليد الأفكار أو البدائل أو الاحتمالات التي قد تكون مفيدة في حل المشكلات والتواصل مع الآخرين وفتح المجالات الجديدة.
وتعرَّف الموهبة بأنها:
سمات معقدة تؤهل الفرد للإنجاز في بعض المهارات أو الوظائف.
وتظهر الموهبة في الغالب في مجال محدد، مثل: الموسيقى أو الشعر أو الرسم.
والموهوب هو الفرد الذي يملك استعدادًا فطريًّا وتصقله البيئة الملائمة.
الفرق بين الموهبة والإبداع
- وبينما يعد الإبداع مهارة مكتسبة يمكن لأي شخص مهما بلغ من العمر التدرب عليها واكتسابها، فإن الموهبة تولد مع الشخص قبل أن يبدأ في ممارستها.
كما يقول (فرانكي كاني) في نظريته النموذج التفريقي بين القدرة والموهبة -DMGT:
«لا يمكن للمرء أن يصبح نابغًا دون أن يكون موهوبًا بالفطرة أولًا.»
- كذلك تختلف العلاقة بين الموهبة والإبداع في أن الشخص المبدع يُمْكنه -عادةً- الإبداع والتفكير خارج الصندوق في المجالات المختلفة، وعلى مدار حياته اليومية.
بينما تقتصر الموهبة على مجال واحد أو اثنين من مجالات الفنون أو العلوم أو غيرها، التي ينبغ فيها الشخص الموهوب ويحقق إنجازات كبيرة.
- وأخيرًا، إذا كان “الإبداع” يتطلب قدرًا كبيرًا من الذكاء والفهم والقدرات العالية، فإن “الموهبة” قد يحظى بها الأشخاص المتأخرون أو المعاقون، مثل: بعض مرضى التوحد ومتلازمة الموهوب.
الموهبة والإبداع عند الأطفال
يحتاج الأطفال إلى عناية فائقة واهتمام بالغ من قِبل الأب والأم أو المعلم من أجل اكتشاف قدراتهم وتنميتها، وإرشادها إلى الطريق القويم.
فكم من طفل بدت عليه علامات النبوغ والتألق منذ الصغر، لكنها سريعًا ما انطفأت وطُمس نجمها؛ بسبب إهمال الأهل أو جهلهم بالطريق الصحيح لاكتشاف مواهب أبنائهم وتطويرها!
ويُعرّف الطفل الموهوب بأنه: مَن تميّز بمستوى عالٍ في أي مجال من مجالات الحياة العلمية أو العملية أو الفنية، مقارنة بزملائه الآخرين في الفئة العمرية التي ينتمي إليها.

تحديد الطفل الموهوب:
من التعريفات المشهورة للموهوب، ما أوردته الجمعية الأمريكية القومية للدراسات التربوية (1958)، إذ ذكرت أن الطفل الموهوب هو:
“من يظهر امتيازًا مستمرًّا في أدائه في أي مجال له قيمة.”
وتعد عملية تشخيص الأطفال الموهوبين عملية معقدة، تنطوي على الكثير من الإجراءات التي تتطلب استخدام أكثر من أداة من أدوات قياس وتشخيص الأطفال الموهوبين.
ويرجع السبب في صعوبة قياس مواهب الأطفال الموهوبين وتشخيصها إلى تعدد مكونات مفهوم الطفل الموهوب وأبعادها -كما ذكرنا.
وتتضمن هذه الأبعاد:
- القدرة العقلية.
- القدرةُ الإبداعية.
- القدرة التحصيلية.
- المهارات والمواهب الخاصة.
- السمات الشخصية والعقلية.
بيد أن العلماء والباحثين أنشؤوا عدة اختبارات ذكاء لقياس القدرة العقلية لدى الطفل وتمييز درجة نبوغه، وتقيس هذه الاختبارات الأمور الآتية:
1 ـ القدرة على التفكير والاستدلال.
2 ـ القدرة على تحديد المفاهيم اللفظية.
3 ـ القدرة على إدراك أوجه الشبه بين الأشياء والأفكار المماثلة.
4 ـ القدرة على الربط بين التجارب السابقة والمواقف الراهنة.
أنماط التفوق العقلي لدى الأطفال:
يظهر التميز والتفوق العقلي للأطفال بعدة أشكال ومسميات، فالإبداع لدى الطفل لا يقتصر على التحصيل الدراسي أو الرياضي فقط، بل قد يمتد ليشمل واحدًا أو أكثر من أنماط التفوق العقلي الآتية:
1 ـ القدرة على الاستظهار أو الحفظ.
2 ـ القدرة على الفهم.
3 ـ القدرة على حل المشكلات.
4 ـ القدرة على خلق أفكار وآراء جديدة.
5 ـ امتلاك المهارات المختلفة.
6 ـ القدرة على القيادة الجماعية.
مستويات المتفوقين عقليًّا
صنف (كرونشانك) مستويات التفوق العقلي تبعًا لنسبة الذكاء بين الناس، وقسمها إلى ثلاثة مستويات كما يلي:
الفئة | نسبة الذكاء | نسبتهم بين البشر |
الأذكياء المتفوقون | 120 ـ 135 | 5% ـ 10% |
الموهوبون | 135 – 170 | 1% ـ 3% |
العباقرة (الموهوبون جدًّا) | 170 فأكثر | 0.00001% (نسبة قليلة جدًّا) |
كما ترى -عزيزي القارئ- من خلال هذه الإحصائية، إن أغلبية الأفراد في المجتمع يتمتعون بمستوى ذكاء طبيعي ومتوسط، وقد يمتلك بعضهم طاقات كبيرة من الإبداع، بينما الأقلية هم الموهوبون والعباقرة.
عناصر الموهبة:
وتحتاج الموهبة إلى ستة عناصر مجتمعة حتى تتحول من مجرد هبة طبيعية إلى مهارة حقيقية يمكن أن تُحدث فرقًا في حياة الشخص ومجتمعه، تتمثل هذه العناصر في:
- الموهبة ذاتها.
- الفرصة.
- البيئة المحفزة.
- الحافز الشخصي.
- التعلم والممارسة.
- نتائج الموهبة.
سمات الأشخاص الموهوبين:
بشكل عام، يتعلم الأفراد الموهوبون بسرعة أكبر وأعمق وعلى نطاق أوسع من أقرانهم.
فقد يتعلم الأطفال الموهوبون القراءة مبكرًا ويكتبون بنفس مستوى الأطفال العاديين الأكبر سنًّا.
يميل الموهوبون إلى إظهار إبداع وفضول، وقدرة تفكير عالية، ومفردات كبيرة، وذاكرة ممتازة -دون الحاجة إلى الكثير من التكرار.
وقد يبدي الشخص الموهوب حساسية جسدية وعاطفية شديدة، وقد ينزعج من الضوضاء أو الروائح أو الزحام بشكل ملحوظ.
يواجه بعض الموهوبين صعوبة في التواصل مع زملائهم؛ بسبب التفاوت في نمط التفكير وحجم المفردات والشخصية والاهتمامات والدوافع.
على سبيل المثال: قد يفضل الطفل الموهوب رفقة الأطفال الأكبر سنًّا أو البالغين.
في كثير من الأحيان، لا تُوزع الموهبة بالتساوي على جميع المجالات الفكرية، فمثلًا:
قد يتفوق الفرد في حل مشكلات المنطق ومع ذلك يكون مدققًا لغويًا ضعيفًا، وقد يكون موهوبًا في القراءة والكتابة ولكنه يعاني مشكلة في الرياضيات.
كيف تحفز الموهبة والإبداع لديك؟
التأمل
يعد التأمل بوابتك الأولى نحو الإبداع والتميز، كالتأمل في الطبيعة وسحرها، والتأمل في الأمور التي يعدها الناس طبيعية…
فربما تتعرف إلى أسباب وحكم أخرى لحدوث مثل هذه الأمور.

ممارسة الرياضة
تخلصنا الرياضة من الطاقات السلبية وتعمل على تحفيز الطاقة الإبداعية لدينا، لذلك تعد الرياضة ولا سيما المشي بشكل يومي من العوامل التي قد تساعد على التفكير الإبداعي.
الخرائط الذهنية
استخدام أسلوب الخرائط الذهنية في التفكير والتخطيط يساعد الشخص على تنظيم أفكاره، وابتكار المزيد من الأفكار المختلفة والاقتراحات.
القراءة والاطلاع
لا شك أن القراءة حول مختلف الموضوعات، تعزز الحصيلة المعرفية للشخص وتجعله على اطلاع دائم على الآراء والأفكار الجديدة المطروحة على الساحة.
العصف الذهني
وهي طريقة تلجأ إليها فرق الدعايا والتخطيط وغيرهم لإنتاج أكبر قدر من الأفكار الإبداعية المميزة.
ويمكنك التعرف إلى تفاصيل أكثر، في هذا المقال: أنواع العصف الذهني | استعد للإبداع.
لا تتوقف عن السؤال
تساءل دائمًا -حتى عن الأمور البديهية- وكأنك طفل!
إذ تثير الأسئلة الفضول، وتزيد الحلول المقترحة والأفكار المطروحة.
متابعة أعمال المبدعين
إن مشاهدة الأعمال الفنية الإبداعية ومتابعة الجديد منها بشكل مستمر؛ يحفز الحواس لديك للاقتداء بمثل هذه الأعمال وتطويرها، ويوحي إليك بالمزيد من الأفكار الإبداعية.
اقرأ أيضًا: التفكير الإبداعي | طريقك للإبداع يبدأ من هنا.
علم نفس الموهبة والإبداع
تحدث علماء النفس كثيرًا على مر العصور عن تأثير الموهبة والإبداع في الصحة النفسية للأطفال والبالغين في مجتمعاتهم.
وخلٌص الباحثون إلى وجود رأيين متناقضين حول الرفاهية النفسية للأطفال الموهوبين:
النظرية الأولى:
هي أن الموهبة تعزز المرونة لدى أصحابها وتجعلهم أكثر قدرة على التكيف مع الظروف المجتمعية المحيطة.
ويرجع ذلك إلى قدرة الأطفال الموهوبين على فهم الذات والآخرين بشكل أكبر؛ بسبب قدراتهم المعرفية ومن ثم التأقلم بشكل أفضل مع التوتر والصراعات المجتمعية وقلة المعرفة لدى أقرانهم.
إذ تشير الدراسات التي تدعم وجهة النظر هذه إلى أن الأطفال الموهوبين يظهرون تكيفًا أفضل من أقرانهم العاديين عند قياس مواهبهم بناءً على مجموعة متنوعة من العوامل.
النظرية الثانية:
وهي أن الأطفال الموهوبين أكثر عرضة لمشكلات التكيف من أقرانهم غير الموهوبين، وأن الموهبة تزيد من تعرض الطفل لصعوبات التكيف.
إذ يعتقد مؤيدو هذا الرأي أن الأطفال الموهوبين أكثر عرضة لخطر المشكلات العاطفية والاجتماعية، خاصة خلال فترة المراهقة والبلوغ.
والسبب في ذلك أن الموهوبين أكثر حساسية للصراعات الشخصية، ويعانون درجات من الاغتراب والتوتر أكبر من أقرانهم؛ نتيجة لقدراتهم المعرفية المرتفعة.

وختامًا عزيزي القارئ، نتمنى جميعًا أن نمتلك موهبة فريدة تميزنا، لكن هل تعلم أنه هذه الموهبة قد تؤدي بأحدهم إلى الاكتئاب؟! بل والانتحار أحيانًا؟!
كما حدث واختفى أحد طلاب الثانوية الموهوبين من غرفة نومه يدعى (دالاس إيجبرت)، حتى تبين أنه قتل نفسه!
فقد يكون أداء الشخص المبدع أو الموهوب مرتفعًا ومميزًا، إلا أن أداءه النفسي ينخفض بشكل ملحوظ كلما تعرض لضغوطات من قِبل المجتمع أو شعر بتجاهل وانتقاد مستمر ممن حوله.