مفاهيم ومدارك

“النسبية اللغوية” بين الرفض والتأييد!

«تكلم حتى أراك!»
عِشت تلك المقولة بحذافيرها؛ فقد نشأتُ في أسرة هجينة لأبٍ مصري وأم فرنسية، وسط الاختلاف الكبير في الثقافة والفكر بين هاتين الحضارتين!
في طفولتي… 
حينما كنت أطلب من أبي اصطحابي إلى الحديقة فيرد: «غدًا بعد الظهر»، بينما تجيب أمي: «غدًا في الثانية مساءً»!
ينظر كلاهما إلى الحياة نظرة مختلفة؛ فأمي محددة موضوعية، أما أبي فهو عطوف فياض المشاعر. 
فهل اختلاف اللغة أو “النسبية اللغوية” تصنع كل تلك الفروقات الثقافية والفكرية؟!

معنى النسبية اللغوية

لفظ “نسبية” يعني: اختلاف، فالأشخاص الذين يتحدثون لغات مختلفة لديهم وجهات نظر مختلفة عن العالم.

يفترض علماء النفس أن البناء اللغوي للغةٍ ما يؤثر في الناطقين بها ونظرتهم إلى العالم وتصوراتهم وإدراكهم؛ أي: يؤثر في ثقافتهم.

يشَبه بعض علماء النفس العلاقة بين اللغة والثقافة بالدائرة المغلقة، فكل منهما يؤثر في الآخر.

من هذا المنطلق، تَصدق مقولة “اللغات مرايا الشعوب”!

فرضية سابير-وورف

درس (إدوارد سابير) التأثير العميق للغة في الثقافة، لكنه لم يطلق على دراساته تلك اسمًا محددًا. 

ثم وضح تلميذه (بنيامين لي وورف) العلاقة بين اللغة والثقافة؛ إذ اعتقد (وورف) أن البناء اللغوي ينبع من تفكير المتحدث بتلك اللغة.

وأضاف أن كل لغة تجعل متحدثيها يرون العالم بشكل مختلف؛ فاللغة ليست مجرد كلمات إنما هي تعبير عن الأفكار باستخدام أدوات متعددة، منها: الكلمات، ونغمة الصوت، وكذلك لغة الجسد.

وحيث إن نظرة الفرد إلى العالم تعتمد على تفكيره واعتقاده؛ أي: ثقافته، وإن اللغة تكوِّن ثقافة الشعوب، فهكذا تؤثر اللغة التي نتحدثها في نظرتنا إلى العالم.

إن صياغة الأفكار ليست عملية مستقلة، بل هي نتاج مزج قواعد اللغة ومفرداتها التي نعبر بها عن الأفكار والخبرات التي اكتسبناها. 

تود الحصول على المزيد من المقالات المجانية على ترياقي؟ اشترك الآن ليصلك كل جديد!

أمثلة على نظرية النسبية اللغوية

لجأ (وورف) إلى الكثير من التجارب العملية للإجابة عن سؤالين: 

١. ما النسبية اللغوية؟ 

٢. إلى أي مدى تؤثر النسبية اللغوية في الشعوب؟

ومن هذه التجارب:

متحدثو الهوبي

درس (وورف) لغة الهوبي الهندية -التي يتحدثها سكان جنوب غرب أمريكا الشمالية- دراسة مكثفة، وقد خصها بالدراسة لاختلاف التكوين اللغوي لها عن باقي اللغات في أنها تفتقر إلى الأزمنة!

مع ذلك، فإن متحدثي لغة الهوبي يستطيعون إيصال المعلومة دون استخدام الأزمنة من مضارع وماضٍ ومستقبل.

فبدلًا من قول: «مكثت ستة أيام»، يقولون: «غادرت في اليوم السادس».

وهكذا تشير لغة الهوبي إلى رؤية العالم كعملية مستمرة غير مقسمة بوقت، ومن ثم يرى متحدثوها العالم من خلال الهيكل اللغوي الخالي من الأزمنة.

أما الأوروبيون، فيستخدمون أزمنة الماضي والحاضر والمستقبل في هيكلهم اللغوي، مما يشير إلى ثباتهم وموضوعيتهم.

الحتمية اللغوية وسجن اللغة

تُعرف “الحتمية اللغوية” بأنها الوجه الأكثر صرامة للنسبية اللغوية.

و”سجن اللغة” مصطلح واسع الجدل، أطلقه الفيلسوف الألماني (نيتشه) على “النسبية اللغوية”.

افترض (نيتشة) أن اللغة تمثل اللبنة الأساسية للفكر، لذا فهي تشكله وتؤثر فيه ويرجع إليها سبب الاختلاف الثقافي، فاختلاف اللغات يولد اختلاف التفكير.

وهو ما تعنيه “الحتمية اللغوية”، حيث السجن الذي تحاصَر فيه العقول؛ فالألفاظ ما هي إلا قبور للمعاني!

دلائل واقعية على فرضية الحتمية اللغوية

لغة (Guugu) ومركزية الأرض

يتحدث جماعة من البشر لغة تسمى (Guugu Yimithirr)، وبها يصفون كل شيء بناءً على مركزية الأرض؛ فبدلًا من قول: «المقعد على يمينك» يقولون: «المقعد إلى الشرق».

وهكذا أثرت اللغة في ثقافتهم وعاداتهم، فمتحدثو تلك اللغة لديهم نغمة صوتية مثالية للتوجيه.

وفي تجربة، طُلب من عدد من متحدثي اللغة المذكورة وصف أماكنهم، فكان وصفهم جغرافيًّا دقيقًا.

وطُلب منهم إعادة الوصف بعد عدة أعوام، فكان وصفهم متناهي الدقة والتحديد، لأنهم يرون العالم بشكل مميز بسبب تصورهم الفريد للفضاء.

لغة البيراها

 

  • يتحدثها سكان الأمازون الأصليون.
  • تخلو من الكميات والأرقام.
  • معظم متحدثيها لا يستطيعون الحساب.
  • ذكر عالم النفس (بيتر جوردون) أن متحدثي لغة البيراها يمكنهم التمييز فقط بين الأرقام واحد واثنين وثلاثة بدقة نسبية، لكنهم يعجزون تمامًا عن تمييز أي رقم أكبر؛ فكلما زاد العدد ازداد الأمر سوءًا.
  • يعبرون عن الكميات باستخدام الوصف، مثل: “كبير” أو “أكبر” أو “صغير”… إلخ.
  • حتى بعد تعليمهم اللغة البرتغالية مدة ثمانية أشهر، لم يستطع فرد منهم العد من واحد إلى عشرة. 

علم الدلالات وعلاقته بالنسبية اللغوية

  • علم وُلد من رحم النسبية اللغوية.
  • يشير العلماء إلى أن ذلك العلم قائم على تغير لغة الشخص عند تغير المشاعر التي خُلقت داخل عقله لاستنباط استجابة معينة.

وهكذا فإن اللغة تدعم الفكر، وهو ما يؤكده مبدأ النسبية اللغوية.

وكثيرًا ما تكون اللغة أداة لجذب الانتباه في التجارب النفسية؛ فمثلًا في كل من اللغات العربية والفرنسية والأسبانية يوجد طريقتان للتحدث؛ رسمية وودية، مثل قولنا: «أُبلغ سيادتكم» و«أبلغك».

نقد لاذع لفرضية الحتمية اللغوية

عارض كثير من العلماء فرضية (نيتشه)، إذ رأوا أن مصطلح “سجن اللغة” غير ملائم تمامًا؛ لأن اللغة قد تحجم التفكير لكنها لا تحبسه.

وقال عالم النفس (ستيفن بينكر) في كتابه “غريزة اللغة” إن الحتمية اللغوية مجرد هراء لا يعتد به.

وقد اقترح لغة عالمية للفكر معللًا ذلك بأن اختلاف مسميات الألوان في اللغات -مثلًا- لا يعني اختلاف إدراك تلك الألوان.

أما بخصوص لغة الهوبي وخلوها من الأزمنة، فإن لديهم وحدات زمنية ونظام معقد لحفظ الوقت، وهذا يُعد قصورًا كبيرًا في فرضية سابير-وورف.

بينما رأى (بينكر) -عالم لغوي- أن الحتمية اللغوية تنبع من مساواة الفكر باللغة، وهو ما اعتبره حماقة؛ فالبشر يفكرون بلغة فكرية مشتركة ذات طرق تعبير مختلفة تسمى “اللغات”.

لا تحد اللغة من قدرتنا على إدراك العالم والتفكير به، لكنها تركز إدراكنا على جوانب معينة في العالم دون غيرها.

وختامًا:

يبدو أن ابن خلدون -مؤرخ ومؤسس علم الاجتماع- كان ذا بصيرة نافذة عندما قال: «إن غلبة اللغة بغلبة أهلها، وإن منزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم.»

بقلم صيدلانية/ أسمهان إسماعيل رضوان

المصدر
How Much Does Our Language Determine Behavior?Language and ThoughtLinguistics relativity and linguistic determinismThe Sapir-Whorf Hypothesis Language and Thought
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى