الهندسة البشرية | عندما يتحد السلوك البشري مع تطوير الآلة

في إحدى مصانع الحديد والصلب، اجتمع القطاع المسؤول عن استيراد الماكينات والأدوات، واقترحوا استبدال الماكينات الحالية بماكينات جديدة تزيد من إنتاجية العمل بجودة عالية، وبسرعة تفوق الماكينات الحالية.
عند استقبال مسؤولي القطاع هذه الماكينات، جمعوا العمال وألقوا عليهم محاضرات حول كيفية التعامل مع الماكينات الحديثة.
لكن عند تعامل العمال مع الماكينات الجديدة، وجدوا صعوبة في فهم طبيعة تشغيلها، الأمر الذي ترتب عليه بطء عملية الإنتاج.
لم يقف الأمر عند ذلك، بل تعرض بعض العمال لإصابات متوسطة أدت إلى تغيبهم عن العمل.
ما هي مشكلة الكامنة في الماكينات الجديدة يا تُرى؟
إنها فقدان الانسجام بين الإنسان والآلة، إذ يواجه الشخص صعوبة شديدة في التعامل مع الآلة وتنفيذ مهامه من خلالها.
هذه المشكلة تتبناها الهندسة البشرية، من أجل الوصول إلى بيئة عمل صحية وآمنة ومنتجة.
ما هي الهندسة البشرية؟

الهندسة البشرية -أو ما يُعرَف بـ”الأرجونميكس”- هي علم يهدف إلى دراسة العلاقة بين الإنسان ومحيط عمله من معدات، ومنتجات، ومهام، ونُظُم العمل والإدارة، وخلق حالة من الانسجام والتوافق العقلي والجسماني بينهما.
تتعمق الهندسة البشرية في خلق تفاعل إيجابي ومرونة بين الإنسان والآلة، لكن كيف تحقق ذلك؟
تدرس هندسة العوامل البشرية علم نفس الإنسان، وعلومًا أخرى مختصة بالطبيعة الفيزيائية لجسم الإنسان، وتدمجها في التكنولوجيا الحديثة عند صنع الآلات أو تحديد نظم العمل.
تود الحصول على المزيد من المقالات المجانية على ترياقي؟ اشترك الآن ليصلك كل جديد!
أي تختص الهندسة البشرية في علم النفس بتصنيع الآلات والمعدات، وتسخيرها وفقًا لسلوكات الإنسان وقدراته الذهنية، لتصبح أسهل في الاستخدام وأكثر أمانًا.
أهم العلوم المساهمة في الهندسة البشرية
هناك ثلاثة مجالات معرفية وُجِدَ أنه لا غنى عنها عند دراسة العمل والهندسة البشرية، ألا وهي:
- الأنثروبومتري: يعتمد على قياس كل أجزاء الجسم، والذي يفيد في تصميم الآلات وفقًا لأحجام البشر.
- البايوميكانيك: يدمج قوانين الفيزياء والهندسة في وصف الأجزاء العضلية للإنسان، أي يساهم في تصنيع آلات ذات قوى متوافقة مع القوة العضلية للإنسان.
- الفسيولوجي: يدرس نوعية وكيفية الأنشطة المختلفة لجسم الإنسان.
دوافع نشأة الهندسة البشرية
كانت مشاكل الصحة المرتبطة بالعمل سائدة منذ القدم. لكن بحلول الثورة الصناعية في أوروبا، انتشرت مشاكل العمل من معدات مرهقة ومخاطر صحية يتعرض لها العمال، ما دفع الطبيب (رامازيني) إلى إطلاق كتابه عن الصحة المهنية.
بعد فترة بسيطة، توصل العالم البولندي (ووجيك جاسترزيبوسكي) إلى مصطلح “علم العمل – Ergonomics”، وهي كلمة يونانية الأصل مشتقة من “Ergon” بمعنى (عمل) و”nomics” بمعنى (قانون).
تُدُووِلَ المصطلح في أوروبا، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، لكن لم يُعتَد به كعلم في معظم الصناعات إلا منذ ستين عامًا.
أهمية الهندسة البشرية في بيئة العمل
عند دراسة العمل والهندسة البشرية سويًا، توصل العلماء إلى فوائد متعددة تعود على المنظومة والعمال، منها:
١. خلق بيئة عمل مريحة
استخدام العمال أدوات ومعدات مريحة مصممة وفقًا لقدراتهم الجسدية ومطابقة لمعايير الأمان يزيد من ثقة العمال في تنفيذ المهام المكلفين بها.
٢. الحفاظ على الصحة النفسية والجسدية
لا تخلو بيئة العمل من ضغوط العمل النفسية، لكن تختلف حدتها من مكان لآخر وفقًا لنظام العمل والمعدات المتوافرة فيه.
من خلال تطبيقات الهندسة البشرية المُصممة وفقًا لعقلية وميكانيكية جسم الإنسان، يتمتع الإنسان بصحة نفسية وجسدية أفضل.
٣. زيادة إنتاجية العمل
الحفاظ على صحة العمال ونفسيتهم يُمكِّنهم من توجيه طاقتهم في تنفيذ المهام على أكمل وجه. ومن ثَمَّ، لا وجود لتأجيل مهامهم أو التكاسل في تنفيذها، فترتفع إنتاجية العمال.
٤. تحسين كفاءة العمل
استخدام العمال لأجهزة متوافقة مع قدراتهم وإمكاناتهم يُقلل من نسبة الأخطاء، ويُعزز كفاءة الإنتاج.
٥. توفير المال
يوفر تطبيق الهندسة البشرية خسائر مالية كبيرة يمكن أن تنتج عن: تلف المعدات، أو إصابة العمال نتيجة لعدم توافر عوامل الأمان بالمنظومة، ومن ثَمَّ غيابهم عن العمل، أو تكرار الأخطاء.
٦. ضمان ولاء العمال
أول ما يُرسِّخ ولاء العمال للمنظومة شعورهم بحرص الإدارة على راحتهم وصحتهم، وذلك ما تُحققه الهندسة البشرية في نظم العمل والمعدات.
ينتج عن ولاء العمال للمنظومة شعورهم بالرضا الوظيفي، وحرصهم على إخراج كامل طاقتهم في سبيل علو المنظومة.
أنواع الهندسة البشرية في علم النفس

تنقسم مجالات الهندسةِ البشرية -حسب اتجاهاتها والنتائج المترتبة عليها- إلى ثلاثة أنواع، لكنها تشترك في خلق بيئة عمل مريحة ومنتجة وآمنة. هذه الأنواع هي:
١. الهندسة البشرية الإدراكية
إذ تهتم بتصنيع معدات وآلات متوافقة مع القدرات العقلية للبشر (الانتباه والإدراك والذاكرة). ومن ثَمَّ، يتحسن الأداء البشري والقدرة على اتخاذ القرار.
٢. الهندسة البشرية التنظيمية
تتناول الجانب الإداري من سياسة المنظومة وثقافتها، والإجراءات الخاصة بتوزيع مهام العمل. ومن أهم مجالات الهندسة التنظيمية:
- إدارة الجودة.
- إدارة الموارد البشرية.
- ساعات العمل.
- نظام المكافآت.
- العمليات الإدارية.
- الاتصالات.
٣. الهندسة البشرية المادية
من أكثر أنواع الهندسةِ البشرية شيوعًا تلك التي تتناول توفير معدات وأماكن جلوس وأدوات.
تطبيقات الهندسة البشرية
لا تقتصر الهندسةُ البشرية على مجال الصناعات فقط، بل تدخل في معظم المجالات المتنوعة من المجال الطبي، والطيران، والاتصالات، والحاسب الآلي، والمهن التعليمية.
إليك أبرز تطبيقات الهندسة البشرية:

١. تقييمات بيئة العمل
عند دراسة العمل والهندسةُ البشرية، ينتج عنهما تحليل بيئة العمل لتطوير التصميم، وصيانة المعدات وأدوات التحكم والمرافق وفقًا لمعايير الصناعة. وتشمل تقييمات بيئة العمل كلًا من البيئة الواقعية والافتراضية.
٢. اختبار العوامل البشرية
وذلك من خلال الملاحظات، والمقابلات، وقياس الأداء البشري، وتحليل الأخطاء البشرية.
٣. تصميم واجهة الإنسان والآلة والإنسان والحاسوب
إذ تدرس صفات ومهارات المستخدِم بهدف توظيفها في صناعة الآلة.
٤. تكامل الأنظمة البشرية
إذ تدمجُ الهندسةُ البشرية المعرفة بالقدرات البشرية في مختلف أنظمة العمل الفنية والإدارية.
٥. تصميم النظام
يتمحور حول دمج القدرات البشرية والاعتبارات الصحية مع التصميم، وذلك من خلال المراجعة والتحليلات وتطوير المواصفات.
٦. البحث السلوكي
البحث المفصل في السلوك البشري فيما يتعلق بالتشغيل، والصيانة، وتنفيذ التكنولوجيا الجديدة.
٧.المحاكاة والنمذجة
الاستفادة من تقنيات العالم الافتراضي والنمذجة القائمة على الفيزياء لمحاكاة الأداء البشري.
٨. التحقيق في الحوادث
تساهم الهندسةُ البشرية في التقليل من الخطأ البشري من خلال عدة أنماط وأدوات، مثل:
- نظام تصنيف وتحليل العوامل البشرية (HFACS).
- الهندسةُ البشرية وعملية تحليل المخاطر (HEERA).
- أنماط فشل الخطأ البشري وتحليل الآثار.
- إجراءات تحقيق السلامة.
أصبحت الهندسةُ البشرية جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، بدايةً من أبسط المنتجات (مثل: الهواتف الذكية، ولافتات المرور، والمواقد)، وانتهاءً بالأنظمة المعقدة (مثل: المصانع، وأنظمة معالجة البيانات، ومركبات الفضاء).
إذ كنت -عزيزي القارئ- تملك مؤسسة مهنية، أو كنت صانع قرار في مركزك المهني، لا تتردد أبدًا في تطبيق مبادئ الهندسةِ البشرية على منظومتك.