الوسواس القهري | عندما تصبح أفكارك ألد أعدائك

“لا أستطيع الفرار..
صدقني، لقد حاولت، مرارًا وتكرارًا..
لكن الهروب من سجن أفكاري ليس سهلًا كما ظننت.
أخاف، فأفقد السيطرة، وأدور في حلقات مفرغة كي تهدأ الأفكار العاصفة بذهني.
يقتلني التكرار، وأعلم أن الأمر ليس منطقيًا، ولكنني لا أملك الاختيار“
كان ذلك مضمون رسالة قرأتها منذ عدة أيام، يقاسي صاحبها ويلات الوسواس القهري لسنين طوال.
ظنّ، في بادئ الأمر، أنه لا تفسير لحالته وما يحس به، فعانى وحده دون أن يشعر به أحد، إلى أن سمع من صديق مقرب مصطلح الوسواس القهري لأول مرة.
لذا، دعنا في هذا المقال، نفتح النقاش حول الوسواس القهري بشيء من التفصيل، ونذكر أعراضه، وأنواعه وطرق علاجه.
لعلك تجد هنا ما يجيب تساؤلاتك.
ما هو الوسواس القهري؟
يعد اضطراب الوسواس القهري أو ما يُعرف بالإنجليزية بـ (Obsessive Compulsive Disorder) أحد اضطرابات القلق، ويتضمن هذا المصطلح شقين: الوساوس، والأفعال القهرية.
تود الحصول على المزيد من المقالات المجانية على ترياقي؟ اشترك الآن ليصلك كل جديد!
- الوساوس: تعصف مجموعة من الأفكار والصور، أو المخاوف والشكوك بذهنك وتتكرر بشكل يدفعك للجنون، وتورثك شعورًا مستمرًا بالقلق.
- الأفعال القهرية: تجد نفسك، مهما بدا الأمر غير منطقي، مضطرًا لتكرار بعض الأفعال في محاولة منك لتقليل القلق الناجم عن الوساوس.
ما الفرق بين الوسواس القهري والطقوس العادية؟

يظن البعض أن اهتمام أحدهم بالترتيب، أو حرصه على غسيل اليدين باستمرار في حد ذاته وسواسًا قهريًا، لكن في الحقيقة الأمر أكبر قليلًا من مجرد التكرار.
تشمل الفروقات الجوهرية ما يلي:
- لا يستطيع المريض السيطرة على نفسه، ويخاف دائمًا من حدوث أمر خطير إذا لم يستجب للوسواس.
- يستمر الأمر لفترة طويلة خلال اليوم، كأن تغسل يديك لمدة ساعة مثلًا مما يضيع عليك اجتماعًا أو امتحانًا مهمًا.
- لا يشعر المريض بالرضا تجاه هذه الأفعال القهرية ويود لو يستطيع التوقف عنها، ولكنها تمنحه ارتياحًا مؤقتًا من الوساوس المزعجة.
- يتأثر سير حياته الطبيعية، فيفوت أحداثًا مهمة، أو يتجنب أماكن معينة، أو يشعر بالوحدة والاكتئاب.
ما أنواع وأعراض الوسواس القهري؟
أمثلة الوساوس
- الخوف من التلوث: كأن تخاف بشكل مبالغ فيه من لمس الأسطح التي لمسها غيرك.
- الخوف من نسيان شيء مهم: هل أغلقت الباب جيدًا؟ هل تركت الموقد مشتعلًا؟
- الخوف من التصرف بشكل غير لائق: تخاف أن تفقد السيطرة فتتفوه بألفاظ غير لائقة على الملأ.
- الخوف من إيذاء شخص ما: تخشى أن تدفع أحدهم مثلا أمام عربات القطار، أو أن تصدمه بسيارتك دون قصد.
- الوسواس القهري الجنسي: لديك مخاوف حول تصرفاتك الجنسية فتتصور نفسك مغتصبًا أو معتديًا.
- تجنُّب المواقف التي تحفز الوساوس: كأن تتجنب لقاء أصدقائك، أو ترفض مصافحة مديرك خوفًا من انتقال عدوى مجهولة.
أمثلة الأفعال القهرية
- غسل اليدين والأسطح: قد يستمر التنظيف لساعات، حتى وإن تشققت يداك.
- تكرار بعض الجمل: قد تبدأ في العد أو تتمتم بكلمات في محاولة لدرء إحساسك بالقلق.
- البدء في جولات تفقدية: تراجع الموقد، وتتفقد المفاتيح، وتتأكد من إحكام غلق الباب بشكل متكرر.
- ترتيب الأغراض بشكل معين: تفضل وضع الكتب بنظام وزاوية معينة.
- ملامسة غرض ما: تلجأ، في بعض الأحيان، لملامسة غرض ما عددا معينا من المرات لتهدأ الوساوس، كأن تلمس مقعدًا خشبيًا ثلاث مرات قبل جلوسك عليه.
- الاكتناز: قد تميل لجمع أغراض لا تهمك ولا تحتاجها مثل أوراق الجرائد القديمة، والملابس، والفواتير خوفًا من حدوث شيء خطير إن فقدتها.
وتبدأ هذه الأعراض عادة في سن المراهقة، وإن كان من الممكن أن تصيب الأطفال. يبدأ الأمر تدريجيًا وقد يزداد سوءًا إذا تعرضت لتوتر أو ضغط عصبي شديد.
للمزيد: وسواس الموت _ أين المفر؟
ما أسباب الوسواس القهري؟

في واقع الأمر، لا نعرف السبب وراء الوسواس القهري بالتحديد، ولكن هناك العديد من النظريات المقترحة مثل:
العامل الجيني
وجد الباحثون أن الوسواس القهري يسري في بعض العائلات، مما يرجح وجود عامل جيني في الأمر.
ولكنه مع ذلك لا يفسر مثلًا كيف يصاب واحد من التوأم بالمرض دون الآخر، أو سبب إصابة أشخاص ليس لديهم تاريخ عائلي للمرض.
العامل البيولوجي
من المقترح أن هناك تغير ما في الطريقة التي يعمل بها مخك إن كنت مصابًا بالوسواس القهري:
- كأن تختلف الإشارات في مناطق بعينها في المخ، مما يحفز الوساوس والسلوك القهري.
- أو تقل نسبة السيروتونين -أحد النواقل العصبية المهمة- المسئول عن بعض الوظائف الحيوية وتنظيم حالتك المزاجية.
العامل البيئي
يشمل ذلك التعرض لمواقف صادمة في الطفولة، فيكتسب الطفل خوفًا غير عقلاني تجاه موقف أو فكرة ما.
ولا تتوقف النظريات عند ذلك الحد؛ إذ ظهرت فكرة غير متوقعة تربط بين إصابة الطفل بالتهاب في الحلق والوسواس القهري!
افترض بعض الباحثين أن الأجسام المناعية التي يكونها الجسم تهاجم -عن طريق الخطأ- بعض الخلايا العصبية.
اقرأ أيضًا: مرض البوليميا | الشراهة العصبية
الشطرنج | تأثير الشطرنج على العقل
عوامل الخطورة
توجد بعض العوامل التي تزيد احتمالية الإصابة باضطراب الوسواس القهري، منها:
- التاريخ العائلي، مثل: إصابة أحد أفراد العائلة باضطراب الوسواس القهري.
- العوامل الخارجية، مثل: ضغوط الحياة أو التعرض لإحدى الصدمات التي قد تحفز ظهور بعض التصرفات القهرية.
- بعض الاضطرابات النفسية الأخرى، مثل: اضطراب القلق أو الاكتئاب.
مضاعفات الوسواس القهري
قد تنشأ بعض المشاكل إثر الوسواس القهري، منها:
- إضاعة الوقت في التصرفات القهرية.
- ظهور بعض المشاكل الصحية، مثل: التهاب الجلد التماسي نتيجة بعض التصرفات، مثل: تكرار غسل الأيدي.
- اضطراب الأنشطة الحياتية، مثل: العمل أو المدرسة.
- تأثر العلاقات الاجتماعية.
- ظهور بعض الميول الانتحارية.
تشخيص الوسواس القهري
يُعد تشخيص اضطراب الوسواس القهري من أحد الأمور الصعبة على الطبيب، ذلك لأنه قد تتشابه أعراضه مع اضطرابٍ آخر، مثل: اضطراب القلق أو الاكتئاب.
لكن يحاول الطبيب تشخيص الاضطراب عن طريق الخطوات الآتية:
التقييم النفسي لحالة المريض
يحاول أن يحصل الطبيب النفسي من المريض على بعض المعلومات عن طريق مناقشة أفكاره ومشاعره والأعراض التي تنتابه في بعض الأوقات.
هذا بالإضافة إلى تصرفاته في بعض المواقف ومدى تمكن بعض الانفعالات والأفكار منه وسيطرتها على تفكيره.
قد يستعين الطبيب بأفراد العائلة للتعرف على الصورة كاملة.
يشخص الطبيب الإصابة عن طريق بعض المعايير، مثل:
- وجود بعض الأفكار القهرية التي تدفع الفرد إلى عمل أشياء بشكل قهري مما يسبب القلق والتوتر أغلب الوقت.
- هذه التصرفات، مثل: تفقد الهاتف أو غسل الأيدي.
- تهدف هذه الأفعال إلى تقليل التوتر أكثر من كونها لحل مشكلةٍ ما.
- تستهلك هذه الأفعال وقتًا كبيرًا من اليوم وتتداخل مع الأنشطة الحياتية.
الفحص الجسدي
يفحص الطبيب المريض حتى يستثني بعض الحالات المرضية المحتملة غير اضطراب الوسواس القهري.
قد يطلب الطبيب إجراء بعض الفحوصات والأشعة للتأكد من الأمر.
ما علاج الوسواس القهري؟
ربما تسأل نفسك الآن: “هل يمكن علاج الوسواس القهري نهائيا”؟
في الواقع، لا يُشفى المريض من الوساوس بشكل تام، ولكن يمكن للعلاج -النفسي والدوائي- أن يخفف شدة الأعراض، ويمنحه فرصة التحكم في تصرفاته وحياته بشكل أفضل.
علاج الوسواس القهري بدون أدوية

يعد العلاج السلوكي المعرفي أو العلاج بالكلام طريقة فعالة لمساعدتك على تخطي الأفعال القهرية.
يستخدم معالجك النفسي مجموعة من التقنيات مثل تعريضك -في بيئة آمنة- للمخاوف التي تملأ رأسك، كسطح متسخ، ويطلب منك التعامل معه ولمسه تدريجيًا دون أن يسمح لك بغسل اليدين أو اتخاذ رد فعل قهري.
تعود تلك الطريقة عقلك على دفع الوساوس، ومقاومة الأفعال القهرية، فما تخشاه ليس خطرًا كما يصوره لك عقلك.
علاج الوسواس القهري بالأدوية
قد يصف طبيبك مضادات الاكتئاب من عائلة مثبطات امتصاص السيروتونين مثل الفلوكستين لتحسين أعراضك. وتظهر النتيجة عادة خلال 8 إلى 12 أسبوعًا.
علاج الوسواس القهري بالأعشاب
ذكرت بعض الدراسات المحدودة أعشابًا مثل عشبة سانت جون، أو نبات الكافا لتحسين مستوى السيروتونين لدى مرضى الوسواس القهري.
ولكننا لا ننصح باستخدام الأعشاب بهدف العلاج، إذ لم تُجرَ عليها تجارب سريرية كافية لضمان فاعليتها وأمانها.
وتدخل تلك الأعشاب أيضًا في الكثير من التفاعلات مع الأدوية التي تتناولها لمشاكل أخرى مثل القلق والاكتئاب، مما قد يؤثر بالسلب على صحتك.
للمزيد: سلبيريد (Sulpiride)
البوسبيرون | طريقك إلى السلام النفسي!
كيف تساعد نفسك؟
- حافظ على نمط حياة صحي: مارس رياضة خفيفة كالجري واحصل على قسط كاف من النوم، وتناول طعامًا صحيًا.
- تحدث مع شخص تثق به عن وساوسك، وإن لم تتمكن من ذلك فاحرص على قضاء أغلب الوقت مع أصدقائك وعائلتك كي تشعر بقدر من الأمان.
- اقرأ قصص أشخاص عانوا من نفس مشكلتك واعرف كيف تمكنوا من التغلب على الأمر، يمكن للعلاج الجماعي أن يحقق مبتغاك.
- إذا شعرت بالقلق، يمكنك استخدام بعض تقنيات الاسترخاء مثل التنفس العميق، أو تخيل صورة أو منظر طبيعي مريح.
وأخيرًا، يا صديقي العزيز، ربما لا يفهم من حولك ما تمر به تمامًا، لا لأنهم يكرهونك ولكن لأن الأمر غير واضح بالنسبة لهم، فلا تيأس من التعبير عن نفسك ولا تتوقف عن طلب المساعدة إن شعرت أنك تفقد زمام الأمور.
سيصبح كل شيء على ما يرام، وستجد حلًا لما يخيفك ويزعجك، فهوّن عليك، ولا تقلق!