تجرِبة بئر اليأس

أصاب الاكتئاب طبيب الأمراض النفسية د. هاري هارلو بعد وفاة زوجته في عام 1971 فشرع يوجه اهتمامه العلمي للاكتئاب فقط.
اشتهر هذا العالم بإجراء العديد من التجارِب النفسية التي أفادت الطب النفسي، ولكنه أجرى تجرِبة تُصنَّف بأنها من أسوأ تجارِب علم النفس على الإطلاق، ألا وهي تجرِبة بئر اليأس.
لماذا تدخل هذه التجربة في عداد التجارِب النفسية السيئة؟ ولماذا أجراها؟ وما هي نتيجتها؟
د. هاري هارلو
كان د. هاري هارلو عالمًا مختصاً في الطب النفسي قدَّم العديد من الدراسات والتجارب النفسية المتعلقة بعاطفة الأمومة وعلاقة الأم بأطفالها.
وفي سبيل ذلك أجرى تجارِب عدة على القردة من نوع ريساس بعزلها عن أمهاتها أو تعريضها للأذى البسيط من أمهات بديلة.
خلُصت التجارِب إلى أن ارتباط الصغار بأمهاتهم يكون ارتباطًا عاطفيًا وليس مجرد احتياجًا للطعام والشراب.
تغيَّر توجُّه العالم النفسي إلى دراسة الاكتئاب وإلى إجراء بحوث عدة حوله من بعد وفاة زوجته، ولاحظ أصدقاؤه تغير سلوكياته بالرغم من علاجه من الاكتئاب الذي أصابه.
تجرِبة بئر اليأس Pit of despair
صمم د. هاري هارلو غرفة ذات جدران عمودية ملساء من الفولاذ المقاوم للصدأ تشبه في تصميمها شكل القمع أو المخروط.
كان هناك شبكة من الأسلاك قرب قاع الحجرة العمودية لتخرج فضلات القردة من بين فتحاتها، كان هناك أيضًا حامل للطعام والمياه بالغرفة.
أطلق الطبيب على الغرفة التي صممها اسم حفرة اليأس وكان يهدف إلى إحداث نمط من الاكتئاب عند هذه القردة وإلى دراسة تأثير الوحدة عليهم.
تود الحصول على المزيد من المقالات المجانية على ترياقي؟ اشترك الآن ليصلك كل جديد!
كان يفصل القردة الصغيرة عن أمهاتها بعد عشرة أسابيع من الولادة أو بعد ارتباطها بأمهاتها ومن ثم يضعها في هذه الغرفة ليراقب تصرفاتها.
تراوحت أعمار جميع القردة بين 3 شهور إلى 3 سنوات عند بداية التجربة وكانت التجربة تستمر مدة ستة أشهر في الأغلب.
ظلت القردة في الغرفة مدة تصل إلى 6 أسابيع محرومة من التواصل مع أي كائن حي أو من الخروج من الغرفة.
كانت القردة تتحرك باستمرار في البداية محاولة الصعود لأعلى للهروب من الغرفة العمودية، ولكن كانت تتوقف عن المحاولات بمرور الوقت.
نتيجة تجرِبة بئر اليأس
اختلفت المُدد الزمنية التي توقفت بعدها محاولات القردة للهروب ولكنها لم تتعد ثلاثة أيام على الأكثر.
تقوقعت القردة على نفسها في قاع الغرفة بلا حول ولا قوة بعد فشلها المتكرر في الخروج من الغرفة وظهرت عليها علامات الاكتئاب النفسي.
للأسف، ظلت الحالة نفسها مع القردة بعد خروجها من الغرفة ولم تستجب بعض القردة للتغيير والعلاج بعد ذلك.

تمادى د. هاري هارلو في التجربة ليجبر القردة على الحمل من بعضها البعض باستخدام لوح معين يتيح العملية الجنسية أسماه “لوح الاغتصاب”.
فشلت الأمهات في رعاية أطفالها ولم تستطع تقديم الخِدْمَات الطبيعية لها. لم يتوقف الأمر عند هذا؛ بل آذت أطفالها الصغار بضرب رؤوسها بقوة ومعاملتها بعنف.
أُطلق على التجربة أسماء عدة، مثل: تجرِبة حفرة اليأس وتجربة بئر اليأس وتجربة الحجرة العمودية
النتائج المستفادة من تجرِبة بئر اليأس
بغض النظر عن أحداث تجرِبة بئر اليأس Pit of despair، فقد أوضحت:
- أهمية وجود الأم من أجل النمو النفسي والجسدي الطبيعيين.
- أهمية الاحتكاك بالمجتمع في التكوين النفسي الطبيعي.
تجارِب أخرى لنفس العالم النفسي
كان الطبيب النفسي يفصل القردة حديثة الولادة عن أمهاتها لتنمو في داخل بيئة معملية مع أمهات صناعية وهي وحيدة داخل أقفاصها.
كانت سلوكيات القردة غير طبيعية ولم تعرف كيفية التصرف؛ ولذلك فقد كانت تحوم وتدور باستمرار داخل أقفاصها.
عرَّضت بعض القردة نفسها للأذى الجسدي أيضًا في عزلتها تلك.
فشلت هذه القردة في التعامل بصورة طبيعية مع القردة الأخرى التي وُضعت معها فيما بعد كما أخفقت في الزواج.
لم تستطع رعاية أطفالها بعدما أُجبرت على العلاقة الزوجية، ولم تعرف ما هو دورها كآباء وأمهات ومن ثم فقد قست على أطفالها.
امتنعت بعض القردة عن الطعام بعد هذه التجارِب حتى الموت.

أجرى نفس العالم نوعًا آخر من التجارِب جعل فيه القردة الصغار تتعامل مع أمهات بديلة بعد عزلها عن أمهاتها الحقيقية.
بعض الأمهات البديلة كانت من الأسلاك المعدنية والبعض الآخر كانت من القماش أو مغطاة بالملابس،
وكان يزود الأمهات المعدنية بقنينات لبن للصغير.
لاحظ أن القردة كانت تتعامل بصورة أفضل مع الأمهات المصنعة أو المغطاة بالقماش في حين كانت تنفر من الأمهات المعدنية.
وكذلك لاحظ أنها كانت تتوجه للأمهات المعدنية عندما كانت تحمل قنينات اللبن للحصول على الغذاء فقط،
ثم تعود مرة أخرى إلى الأم المغطاة بالقماش.
دلته هذه التجربة على أن القردة تحتاج إلى الاحتواء العاطفي وليس فقط الاحتياجات المادية كالغذاء.
لاحظ أيضًا أن القردة كانت تلجأ للأمهات البديلة وتلتصق بها عند مواجهتها لأمر جديد أو مخيف لها،
مثل: دمية تصدر أصواتًا مفاجئة داخل القفص.
من ناحية أخرى كانت القردة لا تستكشف المكان أو تتحرك فيه عندما لا تكون بصحبة أمهات صناعية،
بل كانت تبدو جبانة وضعيفة.
الانتقادات التي وُجهت إلى تجرِبة بئر اليأس
كانت تجرِبة بئر اليأس إحدى التجارِب النفسية التي أثارت الجدل في حينها نظرًا لقسوتها على الحيوانات محل
التجربة وتعريضها لمضاعفات، مثل:
- ضعف النمو الجسدي.
- نقص الوزن عن المعدل الطبيعي.
- عسر الهضم.
- الاكتئاب وأعراض ذهانية.
- تأذت صغار القردة التي وُلدت خلال التجربة نتيجة الحالة غير السوية لآبائها.
أسوأ تجارِب علم النفس
أثارت بعض التجارِب النفسية الجدل والاستياء في الأوساط العلمية لقسوتها أو لغرابة نتائجها، نذكر منها:
تجارِب طاعة د. ميلجرام
طلب د. ميلجرام من بعض المتطوعين للتجربة توجيه صعقات كهربائية متدرجة الشدة لأشخاص آخرين.
كانت الأجهزة مزودة بمؤشرات توضح قوة الصاعقة الكهربائية التي ستخرج من الجهاز (صدمة خفيفة أو متوسطة الشدة أو شديدة أو قاتلة).
كان الأمر البديهي أن يرفض المتطوعون زيادة الصعقات الكهربائية الموجَّهة لمن تُجرى عليهم التجربة، ولكن الأمر الصادم أنهم كانوا يوافقون!
الغريب في الأمر أنهم كانوا يشاهدون أمامهم الشخص في أثناء توجيه الصعقة الكهربائية لهم ورغم ذلك كانوا لا
يتورعون عن رفع مستوى شدة الكهرباء للمستويات المميتة، حتى مع رؤيتهم لآلام وشكاوى الأشخاص محل التجربة.
دعني أُطمئن بالك بأن هؤلاء الأشخاص كانوا ممثلين يجيدون تمثيل التعرض للكهرباء والشكوى من أعراض معينة،
مثل: مشاكل القلب بسبب الكهرباء.
تجربة محاكاة السجن لزيمباردو
أقام فيليب زيمباردو ما يشبه السجن في قبو مبنى قسم الأمراض النفسية بجامعة ستانفورد ثم قسّم –
مع الباحثين الآخرين- مجموعة المتطوعين للتجربة إلى قسمين: حراس ومساجين.
أوقف الباحثون هذه التجربة بعد مرور ستة أيام فقط، في حين أنه كان من المقرر أن تستمر أسبوعين.
كان هذا التوقف المبكر للتجربة بسبب ما لاحظه الباحثون على المتطوعين من القسمين؛ إذ تقمص الحراس أدوارهم تمامًا ووصل هذا الأمر لتعذيبهم المساجين من أجل السيطرة عليهم.
من ناحية أخرى، فقد بدأت أعراض القلق العصبي والتوتر على الأفراد من مجموعة المساجين نتيجة سوء المعاملة.
وفي النهاية
من المهم أن يكون الطب مبنيًا على الدليل الذي تدعمه التجارِب؛ ولكن لا بد أن تخضع التجارِب النفسية للحكمة والمنطق لتجنب إلحاق الضرر بالكائنات الحية. يجب أيضًا أن تقدِّم تلك التجارِب نتائج مفيدة ونافعة للبشرية.