علماء ومشاهيرنظريات

جان بياجيه والنظرية المعرفية

كنت أتحدث مع أخي عن الشخصيات المختلفة التي أتعامل معها يوميًّا، وكم الاختلافات والفروق الفردية التي نلاحظها…

أخبرني أن مرحلة الطفولة هي بداية تكوين أي شخصية، شعرت أن هذه المعلومة بديهية وبسيطة جدًّا! 

ولكنه قال لي إنه وجد كتابًا يتحدث عن نظريات جان بياجيه وعلم النفس والتربية، ونصحني بقراءة هذا الكتاب؛ حتى أدرك أهمية الأمر.

نتحدث في هذا المقال عن “جان بياجيه”، وإسهاماته العظيمة في مجال علم النفس؛ فتابع معنا هذا المقال…  

من هو جان بياجيه؟

يعد “جان بياجيه” واحدًا من أهم علماء علم النفس الحديث؛ إذ إنه أول من درس كيفية تطور مهارة الفهم والإدراك لدى الأطفال، وهو من وضع أساسيات علم النفس الارتقائي في القرن العشرين.

ولد “بياجيه” في سويسرا عام 1896، واهتم بدراسة علم الحيوان والفلسفة في مرحلة شبابه، وحصل على شهادة الدكتوراه عام 1918.

قرر بعد ذلك أن يغير مساره، فسافر إلى باريس ودرس علم النفس.

كانت وظيفته بعد التخرج وضع بعض الاختبارات العقلية التي تقيم أداء الطلاب ومهاراتهم في القراءة والكتابة.

وفي أثناء ذلك، لاحظ الاختلافات والفروق الفردية التي تميز هؤلاء الأطفال؛ لذا اهتم بدراسة الأخطاء المتكررة للطلاب والتعرف إلى أساليب تفكيرهم المختلفة، ونشر نتائج ملاحظاته وأبحاثه عام 1921.

كان “بياجيه” مهتمًا أيضًا بدراسة الحالة النفسية والجسدية للأطفال، لذلك أسس المركز الدولي لعلم الأمراض الوراثية.

تود الحصول على المزيد من المقالات المجانية على ترياقي؟ اشترك الآن ليصلك كل جديد!

وقد ألف الكثير من الكتب على مدار مسيرته المهنية الطويلة. وتعد “نظرية النمو المعرفي” أبرز أعماله التي ساعدت على تطوير علم النفس وعلم الاجتماع.

جان بياجيه والنظرية المعرفية

تركز نظرية جان بياجيه للنمو المعرفي على دراسة تطور ذكاء وإدراك الطفل وقدرته على تذكر المعلومات واكتساب المهارات.

تميز “بياجيه” بنظرته المختلفة للعملية التعليمية، فرأى أن التعليم لا يتمثل في قدرة الطالب على حفظ المعلومات وتذكرها فقط.

ولكنه اعتقد أن التعليم يعتمد على التفاعل بين الطالب والمعلم؛ إذ يؤدي ذلك إلى فهم المعلومات وتذكرها بسهولة دون الحاجة إلى الحفظ والتكرار.

وتعد التغيرات طويلة الأمد أساس نظرية جان بياجيه للنمو المعرفي، فهو يدرك تأثير التعليم الإيجابي في حياة الفرد ومستقبله.

لم تركز نظرية النمو المعرفي على دراسة كيفية اكتساب المعرفة فقط، بل اهتمت أيضًا بمعرفة نوع الذكاء الذي يملكه الطفل.

لذلك قرر “بياجيه” ملاحظة الأطفال عن كثب حتى يراقب سلوكهم وتطور مهاراتهم، ثم اقترح تقسيم مراحل النمو المعرفي إلى أربع مراحل مميزة، وهي:

  1. مرحلة الإدراك الحسي.
  2. مرحلةُ ذكاء ما قبل العمليات.
  3. مرحلة التفكير المادي.
  4. مرحلة التفكير المجرد.

إليك بالتفصيل مراحل النمو عند جان بياجيه

مراحل النمو عند جان بياجيه

استعان “جان بياجيه” بأطفاله حتى يستطيع مراقبة سلوكهم وردود أفعالهم باستمرار، ودَون ملاحظاته اليومية في كتاب يصف فيه كيفية تطور سلوك الفرد، من مرحلة الطفولة المبكرة حتى مرحلة المراهقة والشباب.

أثبتت دراسات “بياجيه” أن النمو عملية متتابعة ومنظمة؛ إذ إن جميع الأشخاص يمرون بمراحل النمو المعرفي بنفس الترتيب، ويجب على الفرد أن ينهي جميع أهداف المرحلة الأولى حتى ينتقل إلى المرحلة التالية.

في السطور القادمة، سنشرح مراحل النمو عند جان بياجيه…

1- مرحلة الإدراك الحسي (أول عامين من عمر الطفل)

يبدأ الطفل في هذه المرحلة اكتشاف عالمه الجديد عن طريق الحواس والتفاعل مع البيئة المحيطة.

يستطيع أيضًا تطوير بعض القدرات المعرفية، مثل:

  • اللعب.
  • اكتشاف أعضاء جسمه.
  • استخدام الأشياء المحسوسة، والتعرف إلى أجزائها.

يعيش الطفل في أثناء هذه المرحلة في الوقت الحاضر فقط؛ لأنه لا يملك صورة ذهنية واضحة عن العالم الذي يعيش فيه، فهو لا يتذكر الماضي ولا يدرك استمرارية الأشياء.

على سبيل المثال: 

يمكنك إخفاء لُعبة طفل رضيع، وستلاحظ أنه لن يبحث عنها؛ إذ يعتقد أنها أصبحت غير موجودة بمجرد أن تخرج عن نطاق رؤيته.

2- مرحلة ذكاء ما قبل العمليات (من 2 – 7 سنوات)

يكتسب الطفل مهارة تمثيل العالم الخارجي، ويكوِّن صورة ذهنية عن البيئة التي يعيش فيها، ويستطيع التعبير عن احتياجاته بكلمات بسيطة.

يتعلم في هذه المرحلة مهارة “التفكير الرمزي”، ولكنه يظل غير قادر على التفكير بمنطقية.

يعتقد الطفل أن الأجسام الجامدة تعيش حياة واقعية وتمتلك مشاعر مثل الإنسان؛ لذا قد تجده يتفاعل مع ألعابه ويتحدث معها.

3- مرحلة التفكير المادي (من 7 – 11 سنة)

يبدأ الطفل في التفكير بمنطقية وفهم الأحداث اليومية، ويدرك أن الأشياء قد تختفي ولكنها تظل موجودة في الواقع. 

ويمكنك في هذه المرحلة ملاحظة تميز الأطفال واختلاف شخصياتهم.

يستطيع الطفل أيضًا فهم أفكار البالغين ومشاعرهم، ويتفاعل معهم ويفكر في قراراتهم، وقد تلاحظ أنه يقلد تصرفاتهم.

يميل الطفل إلى ارتكاب الأخطاء وجذب الانتباه، لذلك يجب عليك الحذر في أثناء هذه المرحلة؛ إذ إن ردود أفعالك تجاه هذه الأخطاء سوف تؤدي دورًا كبيرًا في تكوين شخصيته المستقبلية.

4- مرحلة التفكير المجرد (من 12 سنة إلى مرحلة البلوغ)

يستطيع الطفل في هذه المرحلة التحرر من التفكير الحسي والمادي، ويمكنه التعامل مع الأفكار المجردة، ويكوِّن مفهومًا واضحًا عن الحياة والقيم الأساسية.

يمكنه أن يتناقش معك ويوضح وجهة نظره ويدافع عنها بمنطقية، دون الحاجة إلى استخدام الرموز والأمثلة.

يتعلم المراهق التعامل مع المشكلات الافتراضية، ويقدم عدة حلول منظمة وقابلة للتنفيذ.

على الرغم من تصنيف “بياجيه” الصارم لمراحل النمو المعرفي، فإنه لم يتجاهل اختلاف العوامل المؤثرة في تطور شخصية الفرد.

على سبيل المثال: 

لا نستطيع أن نقارن بين النمو المعرفي لدى شخص حاصل على شهادة جامعية ويعيش في بيئة مريحة للأعصاب، وشخص آخر قضى أغلب سنوات عمره في السجن وخرج منه مصابًا باضطرابات نفسية وجسدية.

كيف طور جان بياجيه نظريته؟

كيف طور جان بياجيه نظريته؟

وُظف “جان بياجيه” في معهد (برينت) في عشرينات القرن الماضي، وكانت وظيفته تطوير اختبارات الذكاء.

ولكنه انبهر بأسلوب تفكير الأطفال واختلاف أخطائهم، وشعر أن الأمر يمكن أن يكون أكثر أهمية من اختبارات الذكاء التقليدية.

واعتقدَ أن هذه الإجابات الخاطئة تشير إلى اختلاف الطفل وتميزه، ولاحظ أن الطفل ليس نسخة مكررة من والديه كما اعتقد علماء عصره.

ووضح لنا “جان بياجيه” بعض مميزات أسلوب تفكير الأطفال، ومنها:

  • يختلف ذكاء الأطفال عن البالغين، فالطفل يرى عالمه بإيجابية، ويعتمد على أسلوب التفكير الإبداعي.
  • يكتسب الطفل المعرفة بالتفاعل مع الأشياء والأشخاص، فهو ليس مخلوقًا سلبيًّا ينتظر شخصًا ما يخبره بمعلومات وأوامر محفوظة.
  • يتعرف الطفل إلى بعض المفاهيم الأساسية في مرحلة مبكرة، مثل: العدل، والطمع، والصدق. 

لذا؛ لم يهتم “بياجيه” بقياس القدرات الذهنية للأطفال بأرقام محددة، ولكن كان هدفه معرفة نمط تفكير الطفل.

ساعدت أبحاث جان بياجيه والتربية الإيجابية على فهم الطفل والتعامل مع قدراته ومواهبه، وهو ما أسهم في النضج العقلي والاجتماعي للطفل. 

ما العوامل المؤثرة في النمو المعرفي للطفل؟

لم تتجاهل نظرية جان بياجيه للنمو المعرفي العوامل المختلفة التي تؤثر في تطور شخصية الفرد، ومنها: 

العوامل البيولوجية

تؤثر العوامل البيولوجية الوراثية في معدل ذكاء الطفل وقدرته على اكتساب المهارات وتطوير مواهبه، ومن أبرزها:

  • الأمراض الجسدية.
  • الاضطرابات العقلية.
  • معدل الذكاء.
  • الشكل الخارجي للجسم.

الأسرة والأصدقاء

تتكون شخصية الطفل وقيمه ومبادئه في السنوات الخمس الأولى من عمره، لذا تعد طريقة التربية أهم العوامل المؤثرة في هذه المرحلة… 

إذ تستطيع الأسرة مساعدة الطفل على تكوين شخصية مستقلة ناضجة، ويمكنها أيضًا أن تدمر حالته النفسية وتفقده شغفه ومهاراته.

يتعامل الطفل في أثناء دراسته مع الكثير من المعلمين والطلاب، وهو ما يؤثر أيضًا في قدرته على التواصل والتكيف الاجتماعي.

التعليم

يساعد التعليم على حل المشكلات واتخاذ القرارات، ويمَكن الشخص من تكوين أفكاره ومعتقداته وتطوير مهاراته وقدراته.

تعد مرحلة المراهقة أهم مراحل النمو والتطور في حياة الإنسان؛ لذا يجب أن يهتم المراهق بالقراءة ويحاول اكتشاف مواهبه. 

وينبغي له أن يعلم أن المعرفة لا تقتصر على التحصيل الدراسي والمناهج التعليمية فقط.

المستوى الاجتماعي

تختلف الصفات والخبرات العملية التي يكتسبها الفرد باختلاف مستواه المادي والاجتماعي؛ إذ تعد الاحتياجات المادية من أهم العوامل المؤثرة في تكوين الشخصية ونمط التفكير.

إسهامات جان بياجيه في مجال علم النفس

إسهامات جان بياجيه في مجال علم النفس

تدرس نظريات جان بياجيه في الكثير من الجامعات؛ إذ إنها ساعدت على تطوير مجالات متعددة، مثل: علم النفس، وعلم الاجتماع، والوراثة.

ومن أهم إسهامات “بياجيه” في مجال علم النفس:

تأسيس علم نفس الطفل

توجد عَلاقة قوية بين نظريات جان بياجيه وعلم النفس والتربية، ويمكنك أن تلاحظ مدى اهتمامه بشخصية الطفل المستقلة.

كان الباحثون في ذلك الوقت ينظرون إلى الأطفال ببساطة، وقد كانت أغلب دراساتهم وأبحاثهم تهتم بالحالة النفسية والذهنية للبالغين فقط.

بينما اهتمت أغلب أبحاث “بياجيه” بمرحلة الطفولة، وتأثيرها في العلاقات الاجتماعية والحالة النفسية للشخص مستقبلا.

تطوير نظريات علم النفس الارتقائي

يهتم علم النفس الارتقائي بدراسة التطورات والتغيرات التي تطرأ على شخصية الفرد، ويساعد الأشخاص على التكيف مع هذه التغيرات.

تستخدم نظريات هذا العلم في معرفة الفروق الفردية بين الأطفال، وتنمية الشخصية، وفهم سلوك المراهق وتصرفاته العنيفة.

ساعدت نظرية جان بياجيه للنمو المعرفي على تحديد معايير المراحل العمرية وأهدافها، وبذلك نستطيع تشخيص الاضطرابات البدنية والنفسية في مرحلة مبكرة.

جان بياجيه والتربية

بعد أن تحدثنا عن أهمية أبحاث جان بياجيه في مجال علم النفس، سنتحدث الآن عن التطبيقات التربوية والتعليمية لنظرية جان بياجيه للنمو المعرفي. 

التطبيقات التربوية والتعليمية لنظرية جان بياجيه

المناهج الدراسية

يجب أن يتناسب المنهج الدراسي مع المرحلة التعليمية، فمثلًا: لا يستطيع طلاب المرحلة الابتدائية فهم المعادلات الرياضية المعقدة.

لذلك؛ يجب أن يكون المنهج الدراسي مناسبًا لقدراتهم العقلية، حتى لا يشعر الطالب بالإحباط والفشل.

مراعاة الفروق الفردية

ينبغي أن يدرك المعلم أنه يتعامل مع شخصيات وقدرات مختلفة؛ لذلك يجب أن يحاول التعرف إلى معدل ذكاء الطفل وقدراته ومواهبة.

إذا كنت معلمًا وتتعامل مع طفل يعاني بعض صعوبات التعلم، ستحتاج -أحيانًا- إلى القليل من الصبر والهدوء؛ كي تستطيع مساعدته وتشجيعه. 

ويمكنك أن تستخدم بعض الوسائل التعليمية وطرائق تدريس متنوعة مراعاة لهذه الفروق الفردية.

التواصل مع الأسرة

يجب أن يتواصل المعلم مع أسرة الطفل حتى يتعرف نِقَاط القوة والضعف في شخصية الطفل، ويساعده على تحديد أهدافه التعليمية التي تتناسب مع شخصيته وقدراته الذهنية.

تذكر أن شخصية الطفل تتأثر بردود أفعال البالغين، فقد تؤدي الكلمات الجارحة والضرب المبرح إلى فقدانه الثقة بنفسه وعدم القدرة على التعامل مع الآخرين.

التحدث مع الطفل

لا نستطيع معرفة شخصية الطفل وأفكاره دون التحدث معه والإنصات له، فعندما نترك له فرصة التعبير عن نفسه وتوضيح مشاعره وقراراته، سيساعده ذلك على تعزيز ثقته بذاته.

توفى “جان بياجيه” عام 1980، تاركًا لنا إرثًا علميًا ساعد الكثير من علماء النفس على فهم تعقيدات النفس البشرية.

المصدر
Individual Differences: Types, Causes and Role | PsychologyJean Piaget Biography (1896-1980)Jean Piaget’s Theory of Cognitive Development in School
اظهر المزيد

د. راشيل نادي

صيدلانية وكاتبة محتوى طبي. هدفي أن يصل العلم بشكل غير معقد لمن يريد المعرفة، أثق أن الكتابة ليست مجرد موهبة ولكنها شغف نستطيع به أن نصل لعقول الآخرين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى