جنون الارتياب ، ما بين الشك واليقين.

نَظَر إليَّ أحد العدَّائين عندما تفوق عليَّ في ماراثون الجري الذي أُقيمَ الشهر الماضي، بدأت ضربات قلبي تتسارع، ليس من أثر الإجهاد من السباق، ولكن من الخوف الذي تملكني من ذاك العدَّاء.
صِحتُ في وجهه قائلًا: ” لماذا تتبعني، هل أرسلتك وكالة المخابرات لتتبع حركاتي؟”.
انتبه إليًً متعجبًا: ” ماذا؟ أمجنون أنت؟”.
يُعَدُّ جنون الارتياب -أو ما يُعرَف بالبارانويا– أحد الاضطرابات النفسية التي تصيب الإنسان، إذا كنت مصابا بجنون الارتياب فستشعر بأنك محط اهتمام دائم من قِبَل الآخرين، وتعتقد أنك تحت تهديد مستمر بالرغم من عدم وجود دليل على ذلك.
وتتضخم هذه المخاوف بداخلك شيئًا فشيئًا إلى أن تصير يقينًا راسخًا لا يقبل الشك، ويصبح مصير كل شخص تقابله الانجذاب لتلك الشبكة من الضلالات.
يمكن أن يؤدي انعدام الثقة بالآخرين -والذي لا أساس له- إلى صعوبة تكوين علاقات اجتماعية بِمَنْ حولك، فتشعر بالوحدة والعزلة.
أنواع جنون الارتياب
تنقسم البارانويا إلى ثلاثة أنواع رئيسية:
اضطراب الشخصية الارتيابية
وهو النوع الأخف، إذ يمكن للمصاب به العيش بصورة شبه طبيعية، على الرغم من فقدان الثقة بالآخرين.
الاضطراب التوهمي
يهيمن على هذا النوع اعتقاد واحد خاطئ دون أي علامة أخرى على المرض العقلي؛ فقد تتوهم بأنك على علاقة بنجم سينمائي لم تلتقِ به أبدًا.
وتعيش هذه الحالة بكل جوارحك، وقد تعتقد بأن هذا الممثل يوجه لك رسائل من خلال الأدوار التي يقوم بها على التلفاز.
تود الحصول على المزيد من المقالات المجانية على ترياقي؟ اشترك الآن ليصلك كل جديد!
وربما تتوهم بأنك مصاب بمرض خطير، على الرغم من سلامة الفحوصات والطمأنة المتكررة من الأطباء.
وقد تعتقد بأنك تعاني نوعًا من الاضطهاد من قِبَل الآخرين، فتتكوَّن لديك شكوك بوجود من يتجسس عليك ويخطط لإيذائك بطريقة أو بأخرى.
الفصام البارانويدي
يُعَدُّ الفصام البارانويدي أشد الأنواع خطورة، إذ يَفقِد الشخص استيعابه للواقع تمامًا، ويرتبط بوجود ضلالات وهلاوس مستمرة، مثل الاعتقاد بأن أفكار المرء تُبَثُّ عبر الراديو، أو أنه مُراقَب من منظمات دولية تحاول إلحاق الأذى به، فيؤدي ذلك إلى التزامه المنزل، وتعتيم النوافذ، وإزالة الأشياء التي يعتقد أنها تحتوي على أجهزة تنصت أو كاميرات مراقبة.
وتستهلكه ضلالاته وهلاوسه بالتدريج، إذ يُركِّز أغلب طاقته على هذه المعتقدات، فيحاول حماية نفسه، وتزداد الحالة سوءًا إذا تُرِكَت دون علاج.
اقرأ المزيد عن: مرض الفصام
أنواع الأفكار المتعلقة بجنون الارتياب

لا يظهر جنون الارتياب بصورة ثابتة مع كل الأشخاص؛ فلكل مريض تجربته الخاصة. وفيما يأتي نستعرض بعض الأفكار الشائعة التي ربما تدور برأسك:
- قد تعتقد أن الآخرين يتعمَّدون إزعاجك، ويحاولون تشويه صورتك أمام الآخرين.
- تتوهم بأن هناك من يحاول سرقة أموالك وممتلكاتك الخاصة.
- تعتقد بأن هناك من يراقبك ويتحدث عنك من وراء ظهرك.
- قد تظن بأن بعض الأشخاص يستخدمون تلميحات غير صريحة ومعاني مزدوجة لتهديدك سرًا.
- قد تشعر بأنك في خطر دائم، وأنك مُعرَّض للقتل، وهناك من يتربص بك ويتحَيَّن الفرصة المناسبة.
- تتوهم بأنك فاقد للسيطرة على أفكارك، وأن هناك من يتحكم بها.
قد تلازمك هذه الأفكار والمعتقدات طوال الوقت، وفي بعض الأحيان تظهر هذه الضلالات فقط عندما تقع تحت ضغط عصبي شديد، أو تمر بموقف مزعج.
الشكوك المبررة
جميعنا يجد سببًا وجيهًا للشك في بعض الأحيان؛ فلا يمكن تفسير كل ما يجول بخاطرنا من أفكار وشكوك على أننا مصابون بمرض جنون الارتياب.
فهناك شكوك مبررة تمتلك دليلًا عليها، فعلى سبيل المثال، إذا تعرَّض الكثير من الأشخاص في الحي الذي تسكن به لمحاولات سرقة، فليس من الجنون أن تشعر بأنك معرض للسرقة، فتكون حذرًا في أثناء وجودك بالخارج.
تختلف آراء البشر وتتباين ردود أفعالهم حول المواقف المختلفة، وقد يعتقد الناس أشياء مختلفة بناء على نفس الأدلة،
فقد يرى صديقك أن أفكارك غريبة ومبالغ فيها بعض الشيء، بينما أنت مقتنع تمامًا بما تشعر.
كيف تساعد نفسك؟
إذا كوَّنتَ أفكارًا معينة، ولاحظت استنكارًا متكررًا من قبل المحيطين بك فيما يخص ذلك، فربما ترشدك الإجابة على التساؤلات التالية إلى ما يُعَدُّ فكرًا مرتبطًا بمرض جنون الارتياب:
- هل يشاركك أحدٌ هذه الأفكار؟
- هل تعتمد شكوكك فقط على المشاعر والأحداث الغامضة بدلا من الأدلة المؤكدة؟
- هل يوجد دليل واضح على تلك المعتقدات؟
- هل هناك أدلة ضد هذه الشكوك؟
- هل من الممكن أن تكون شخصًا شديد الحساسية؟
- هل هناك سببٌ يجعلك مميَّزًا عن الجميع؟
- هل لا يزال لديك شكوك على الرغم من الطمأنة المستمرة من الآخرين؟
يمكنك تسجيل ذلك بدفتر ملاحظات خاص بك، قد يساعدك طرح هذه الأسئلة على فهم دوافعك بشكل أفضل، ومعرفة ما إذا كانت أفكارك منطقية أم لا.
كن على تواصل بالآخرين
حاول البقاء على اتصال مع الأشخاص من حولك، وخَصِّص وقتًا لتشاركهم بعض الأنشطة التي تفضلها؛ فتجنُّب العائلة والأصدقاء والتخلي عن الهوايات التي تستمتع بها يزيدان شعورك بالعزلة بمرور الوقت.
كذلك التحدَّث عن أفكارك مع شخص تثق به يمكن أن يقلل من توترك، ويساعدك في تحديد ما إذا كانت هذه الأفكار متعلقة باضطراب جنون الارتياب أم لا.
استجمع شتات نفسك

مجرد الابتعاد عن شيء مرهق لبضع دقائق، أو قضاء بعض الوقت بعيدًا عن روتينك المعتاد، يمنحك فرصة لالتقاط أنفاسك.
وإليك بعض الأفكار التي تساعدك على الاسترخاء وتُقلِّل التوتر بشكل ملحوظ:
- اقرأ كتابًا في أي مجال تفضله، أو تصفح مجلة ولو حتى بضع دقائق يوميًا.
- اذهب لقضاء بعض الوقت في منتزه بين المساحات الخضراء، وتأمل عظمة خالق الكون في الأشجار والزهور والحيوانات التي تراها.
- خصص وقتًا للاستغناء عن هاتفك يوميًا؛ فلا تتحقق من رسائل بريدك الإلكتروني، ولا تتصفح شبكات التواصل الاجتماعي، وابتعد عن التلفاز، واستغل الوقت لممارسة أي نشاط يساعدك على الاسترخاء.
- مارس بعض تمارين التنفس العميق، وتعلَّم الطريقة الصحيحة للتنفس. ضع إحدى يديك على بطنك والأخرى على صدرك، واستنشق أكبر قدر من الهواء من خلال أنفك.
يجب أن ترفع بطنك في أثناء تنفسك وليس صدرك، وأخرِج الهواء ببطء من خلال فمك.
تساعد هذه الطريقة على استيعاب أكبر قدر من الأكسجين اللازم لجسمك، وتقليل نوبات الهلع والخوف، والحد من التوتر بشكل كبير.
إذا جربت هذه النصائح وما زالت الأفكار تسيطر عليك، فلا بأس من طلب المساعدة من الطبيب المختص؛ والذي سيحدد ما إذا كنت تعاني اضطراب جنون الارتياب أم لا، وعليه، يحدد الخطة العلاجية المناسبة.
اقرأ المزيد عن: متى تحتاج إلى طبيب نفسي؟
علاج اضطراب جنون الارتياب

قد تسبب الأفكار التي تسيطر عليك انعدام ثقتك في الطبيب المعالج، الذي يُصعِّب عملية الشفاء، ولذلك من الهام جدًا محاولة البحث عن طبيب تشعر معه بالراحة والطمأنينة.
قد تتضمن خطة العلاج مزيجًا من العلاج النفسي والأدوية حسب حالتك، وشدة الأعراض التي تعانيها.
العلاج السلوكي المعرفي:
هو النوع الأكثر شيوعًا لعلاج جنون الارتياب. خلال فترة العلاج سيساعدك الطبيب على الكشف عن أسباب تلك الأفكار السلبية، وتحليل الأدلة الخاصة بمعتقداتك.
كما أن هذا النوع من العلاج يساعد أيضًا على تقليل مشاعر القلق التي تزيد من أعراض جنون الارتياب.
العلاج الدوائي:
قد يشمل أدوية مضادة للذهان ومضادات الاكتئاب والقلق حسب الأعراض التي تعاني منها، والتي تعمل على تحسين حالتك بشكل جيد.
أعلمُ -يا صديقي- أنك عانيت كثيرًا؛ فقمة الألم عندما تحاول إسكات تلك الضوضاء في عقلك ولا تستطيع، وتحاول إثبات ما تقتنع به وتراه حقيقة ولا تجد من يصدقك. فارفُق بحالك!