ديستوفسكي | الروائي الذي سبر أغوار النفس البشرية!

“على هذه الأرض من لا يستحقُ الحياة…
هب أنني قتلتُ عجوز شمطاء تفيض عيناها خُبثًا وشرًا، ويضرُ بَقاؤها على قيد الحياة أكثر مما ينفع، فماذا خسر العالم؟! بل وماذا خسرت هي؟!
أوَلَم تكُن لتموت -على أيّ حال- خلال أشهر قليلة؟! ألا يُصبح العالم مكانًا أفضل برحيل أمثالها من ذوي النفوس الجشعة الدنيئة؟!”
طُبِعت هذه السطور المظلمة على ظهر رواية الجريمة والعقاب لديستوفسكي، لتخبرنا عما نحن بصدده؛
فنحن -بين دفتيها- على موعد مع قاتل مُشوّش.
أثارت هذه النبذة حفيظتي وفضولي في آن واحد؛ فأيُّ كاتب ذا الذي يجعل من بطله مجرمًا؟ وأين الحبكة الدرامية إذا كنا نعرف -منذ البداية- مَنْ القاتل ومن المقتول؟
إذًا، اسمح لي -يا صديقي العزيز- أن أصحبك في رحلة مع ديستوفسكي وعالم الجريمة والعقاب السوداوي المعقد -بقدر تعقيد النفس البشرية ذاتها.
ذلك العالم الذي يسوده الفقر والعوز، فيُخرِج من النفوس أسوأ ما فيها، ويقودنا إلى مأساة مُبكية، لا ندري فيها من الظالم ومن المظلوم!
فهل أنت مستعد؟
من هو فيودور ديستوفسكي ؟
يُعد فيودور ديستوفسكي واحدًا من أهم الروائيين في تاريخ الأدب الروسي؛ إذ عبرت رواياته عن الصراع النفسي والاجتماعي الذي تمر به بلاده في القرن التاسع عشر.
وُلِدَ في موسكو عام 1821 ميلاديًا، وهو الابن الثاني لكل من ميخائيل وماريا ديستوفسكي، وكان أبوه جافًا غليظ القلب.
تود الحصول على المزيد من المقالات المجانية على ترياقي؟ اشترك الآن ليصلك كل جديد!
تخرج في كلية الهندسة، وأُلقي القبض عليه لاحقًا بتهمة الانضمام إلى جماعات سياسية سرية، وحُكِم عليه بالإعدام.
وبينما كان السجان يتأهب لتنفيذ الإعدام، صدر أمر بتخفيف الحكم، ليُرسَل -على إثره- سجينًا إلى سيبيريا ويقضي هناك بضع سنين.
وقد أثرت تلك الفترة الزمنية في حالته النفسية والجسدية، وفي شكل كتاباته فيما بعد، وعانى -كذلك- من نوبات صرع متكررة.
والجدير بالذكر أن ديستوفسكي وقع فريسة للقمار، وعانى الأمرين نظرًا لسوء حالته المادية وكثرة دائنيه،
وكان يسابق الزمن في كتاباته ليتمكن من تسديد ديونه.
روائيٌّ أم عالِم نفس؟

لم يكن ديستوفسكي روائيًا عاديًا؛ فما من رواية من رواياته إلا ويتجلى فيها الصراع المحموم بين الخير والشر،
ويظهر فيها عمق التعقيدات التي تملأ النفس البشرية.
وقد برع ديستوفسكي في بناء شخصياته من الناحية النفسية، وجعل جُلّ تركيزه على الدوافع الإنسانية التي تُحرك هذه الشخصيات.
وربما تظن -للوهلة الأولى- أن قصص السكارى والمجرمين بعيدة كل البعد عنك، وأن نفورك من جرائمهم سيشكل حاجزًا نفسيًا بينك وبين شخصيات رواياته.
إلا أن عبقرية ديستوفسكي تحطم ذلك الظن تمامًا؛ فما أن تدخل إلى عالمه حتى تقع أسيرًا لأسلوب سرده الفريد،
فتشعر كأنما يتحدث عنك لا عن البطل!
بل وربما تتصبب عرقًا، وتسمع صوت لهاثك الخائف، وتصرخ مدافعًا عن نفسك، وتعض أناملك ندمًا على جريمة لم ترتكبها -فقط- لأنه أوحى لك بذلك!
ونتيجةً لتعمق كتب ديستوفسكي في ظلام الذات البشرية؛ أطلق عليه بعض النقاد لقب “أعظم علماء النفس في تاريخ الأدب العالمي”!
ما بين فرويد وديستوفسكي

في مقالة بعنوان: ديستوفسكي وعقدة قتل الأب، يُحاول سيجموند فرويد -أحد أشهر علماء النفس- تطبيق نظرياته المتعلقة بالتحليل النفسي على شخصية ديستوفسكي.
ويرى فرويد أن نوبات الصرع التي كانت تداهم ديستوفسكي منذ وفاة والده ما هي إلا نوبات صرع هستيري
-أو هستيريا حادة- أي أن منشأها نفسي وليس عضويًّا.
ويضيف كذلك أن هذه النوبات الهستيرية ما هي إلا صورة من صور عقدة أوديب؛ إذ كان ديستوفسكي موضوعًا بين المطرقة والسندان!
فما بين رغبته البدائية الدفينة في منافسة والده على حب والدته، ورغبته في الإطاحة به والإحلال محله، وبين خوفه من والده واحترامه لشخصيته، عانى ديستوفسكي في كبح جماح هذه الرغبات.
فكانت هذه النوبات -التي تأتي عادة في صورة فقدان للوعي وتشنجات يتبعها إحساس عميق بالذنب- طريقة من طرق عقاب الذات، فنفس المرء تجلده على رغبته في الإطاحة بوالده!
وقد استند سيجموند فرويد في تفسيره لشخصية ديستوفسكي على مقدار التشابه بين شخصيات رواياته وبين تفاصيل حياته الخاصة.
فمثلًا: عانى سميردياكوف -إحدى شخصيات رواية الإخوة كارامازوف– من نوبات الصرع، وأقدم بالفعل على قتل والده!
وقد نختلف أو نتفق مع هذه التفسيرات التي تنظر إلى ديستوفسكي كمريض من مرضى فرويد لا ككاتب أو عالم نفس.
ولكن من المؤكد أن أعمال ديستوفسكي -بما فيها من دقة في وصف السمات الشخصية لأبطاله- كانت مصدر إلهام وعنصر جذب للعديد من علماء النفس والفلاسفة!
ما أهم أعمال ديستوفسكي ؟
إن روايات ديستوفسكي كثيرة ولعلَّ أشهرها الآتي:
- الفقراء
- مُذلون مهانون
- بيت الموتى أو مذكرات من البيت الميت
- رسائل من تحت الأرض
- الأبله
- المقامر
- الشياطين
- حلم رجل مضحك
- الجريمة والعقاب
- الإخوة كارامازوف
أقوال ديستوفسكي
تنتشر أقوال ديستوفيسكي على مواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت بشكلٍ عام، ولعلَّك قد شعرت بالحميمية والعمق معًا إن كنت قرأت له من قبل.
إليك بعض اقتباسات ديستوفسكي الشهيرة:
“ما هو الجحيم يا تُرى؟، أعتقد أنه معاناة شخصٍ من فقدان القدرة على الحب!”
“كلما أظلم الليل، كلما كانت النجوم أكثر بريقًا.”
“لا يقدر البشر حجم سعادتهم بقدر تقديرهم حجم المعاناة التي يعيشونها.”
“تلتئم الروح بالوجود مع الأطفال.”
“إن أكثر ما يخشى المرء هو أن يخطو خطوةً جديدة، أو يُعرب عن معنى جديد!”
“لا شيء أصعب في هذه الحياة من قول الحقيقة، ولا شيء أسهل من الكذب والتملق!”
“إذا أردت أن تتغلب على العالم أجمع، تغلَّب على ذاتك!”
“مع الأسف قد تكون هذه هي رسالتي الأخيرة إليك: ابحث عن السعادة!”
ملحمة الجريمة والعقاب

نسيرُ الآن في أزقة سان بطرسبرج في عام 1866 ميلاديًا، ونرى راسكولينكوف؛ شاب يافع وسيم عضه الفقر،
فتركه خالي الوفاض إلا من ثياب رثة، وساعة قديمة بالية.
نراه يطرق باب شقة إيلونا إيفانوفا؛ مرابية عجوز شمطاء، تقتات على مقتنيات الفقراء، ليرهن ساعته البالية مقابل مبلغ زهيد لا يسد الرمق، بينما نشعر بنار الحقد تغلي في عروقه كأنه بركان!
فإذا كنا نعرف منذ الوهلة الأولى أن راسكولينكوف سيُقدِم على قتل العجوز البغيضة، فما الذي يُمكن أن يُقدمه لنا الكاتب؟ ما الذي يمكن أن يحدث في الصفحات الخمسمائة المتبقية؟
بل دعني أعيد صياغة سؤالي بشكل آخر: ما الذي يدفعك إلى البدء في رواية الجريمة والعقاب من الأساس؟
تصور لنا هذه الرواية الصراع الدائر داخل رأس راسكولينكوف المضطرب؛ القاتل أمام القانون، والمقتول أمام نفسه.
ذلك الحائر بين كرهه للبشر وبحثه عن الونس، وبين إحساسه بالفضيلة وأنانيته المفرطة، وبين غضبه وندمه،
وبين رغبته في الهرب وميله إلى الاعتراف؛ كأن في جوفه شخصين يتنازعان!
تسمع صوته مبررًا لنفسه فعلته…
يُخبرك بأن البشر نوعان: أناس -مثلك- عاديون، لا بد لهم من الانصياع للقوانين، وآخرون -مثله- مميزون،
يملكون من الذكاء ما يخولهم كسر القواعد من أجل المصلحة العامة!
نستجديه أن يثوب إلى رشده ويعدل عن فكرته بلا جدوى؛ فقد فات الأوان، وأصبح لدينا -بدل الضحية-ضحيتان!
فبينما يُتم راسكولينكوف جريمته -التي أعدها بنفسه وألقى باللوم على القدر- يدخل زائر غير متوقع إلى مسرح الجريمة فيقتله أيضًا خوفًا من افتضاح أمره.
ويُدرك على الفور، أن رحلة طويلة من العقاب والعذاب على وشك أن تبدأ؛ فنفسه العنيدة الخائفة تنفطر بين رغبته في ألا يُفتضح أمره ورغبته في الخلاص من ذنبه!
حتى نسمعه يهتف في حنق: لقد قتلتُ نفسي، وليس العجوز الشمطاء!
الأبله وديستوفسكي
وهذا هو الأمير (ميشكين) صاحب السلالة العريقة، وبعد مضي أربع سنوات خضع خلالها لرحلة علاج من الصرع!
ها هو يعود إلى روسيا ويقابل في طريقه (بارفيون) التاجر الثري الذي يحاول بكل جهده الوصول إلى الفتاة التي يحب!
إنه الأمير الطيب اللين المتواضع الذي يحاول مساعدة الجميع، لكنه يتمتع بقدر من السذاجة في ذات الوقت.
لكن في الحقيقة لم يكن هذا الأسلوب يروق لـ (أغلايا) -قريبته الحبيبة- التي كانت تسخر منه بسبب سذاجته البلهاء!
هل يتمتع الأمير (ميشكين) بقلبٍ طيب بالفعل؟ أم يوجد بُعدٌ آخر خفيِّ وراء القناع الساذج؟!
إنها رواية الأبله لديستوفسكي وما فيها من أحداث غامضة وصراع بين الشخصيات المختلفة…
هاهنا -يا صديقي العزيز- تنتهي جولتنا القصيرة في عالم ديستوفسكي، على أمل أن تبدأ رحلتك الخاصة بين طيات رواياته.
تلك الروايات التي أضافت عمقًا وبعدًا جديدًا لنفوسنا البشرية، وفتحت أمامنا الأبواب لاستكشاف الدهاليز المظلمة داخل أرواحنا وعقولنا.
تلك الروايات التي تتحدى ذواتنا، وتعبر -أحيانًا- عما لم نستطع قوله؛ عن الصراع الدائر بين رغباتنا المظلمة وبين نفوسنا التي جُبِلت على حب الخير ومكارم الأخلاق!
إذا كنت تفضل مشاهدة الفيديو: إليك بعض أقوال ديستوفسكي