سيجموند فرويد | بين المؤيِّد والمُعارِض

عزيزي القارئ، مرحبًا بك على متن رحلتنا عبر الزمن إلى منتصف القرن التاسع عشر، حيث نشهد معًا نشأة وحياة واحد من أشهر علماء النفس حتى يومنا هذا؛ إنه (سيجموند فرويد).
وُلِدَ (فرويد) في النمسا عام 1856، والتحق بكلية الطب ليتخرج فيها في عام 1881، وسريعًا ما أنشأ عيادته الخاصة بالأمراض النفسية والعصبية، والتي كانت -آنذاك- تُعامَل معاملة الصندوق المظلم من قِبَل الكثيرين.
هذه ليست مبالغة؛ فقد كان من الشائع تفسير الكثير من الأمراض النفسية على أنها بسبب الأشباح والأرواح الشريرة التي سكنت روح صاحبها!
عَمِلَ (سيجموند فرويد) مع إحدى تلك الحالات، واتبع معها أسلوبًا جديدًا يعتمد على إعطائها الحرية للحديث عمَّا بداخلها من أحداث حدثت في الماضي، ليتوصل إلى أن هذه الحالة المصابة بهستيريا سببها صدمة تكوَّنت في طفولتها.
أعاد (فرويد) التجربة مع أحد المحاربين القدامى ليكتشف إصابته بما يُسمَّى اليوم “كرب ما بعد الصدمة”، وتوصَّل إلى اكتشاف غيَّرَ مجرى العلاج النفسي تمامًا؛ وهو العلاج بالمحادثة!
تريد أن تعرف أكثر عن إنجازاته وحياته ونظرياته المثيرة للجدل؟ حسنًا أكمِل القراءة…
فرويد والتحليل النفسي

لم يكن سيجموند فرويد أول من جرَّب طريقة العلاج بالمحادثة؛ بل كان متأثرًا بما توصَّل إليه صديقه طبيب الأعصاب (جوزيف بروير).
وهو أن تشجيع مريضة الهستيريا السابق ذِكْرُها على التحدث -دون مقاطعة أو عوائق- عمَّا تشعر به،
يؤدي إلى تحسُّن أعراضها تدريجيًا.
لكن (فرويد) أخذ هذه الفكرة بعيدًا؛ فكان مقتنعًا أن سلوكنا البشري يتشكل بواسطة الرغبات اللا واعية والذكريات المكبوتة.
فاعتمد مصطلح “التحليل النفسي“؛ وهو طريقته الخاصة لعلاج الأمراض العقلية بواسطة دراسة التفاعلات في العقل الباطن للمريض بين الوعي واللا وَعي، واستحضار الصراعات المكبوتة والمخاوف إلى الوعي،
وذلك باستخدام تقنيات التداعي الحر، وكذلك تفسير الأحلام.
تود الحصول على المزيد من المقالات المجانية على ترياقي؟ اشترك الآن ليصلك كل جديد!
استطاع (سيجموند فرويد) إجبار المجتمع الطبي على الاعتراف برأيه آنذاك، إذ اعتمد على ظهور تحسُّنٍ على مريضاته -اللاتي كُنَّ لا يُعترَف بمرضهنَّ من قَبل- متَّبِعًا هذه الطريقة.
لكن هل كان (فرويد) محِقًّا؟
تطبيق خاطئ للنظرية
بعد أعوام كثيرة تعمَّق فيها (فرويد) في أفكاره عن أن كل سلوك إنساني وراءه دافع جنسي ورغبة مكبوتة،
وأن هناك معنىً خفيًّا وراء كل شعور، وُجِّهَت إليه الكثير من الانتقادات حول تطبيق نظرية التحليل النفسي.
فقد اعتمد كثير من المعالجين المتأثرين به هذه الطريقة في العلاج، فصاروا يُقنِعون مرضاهم بأن سبب مرضهم هو
إيذاء تعرَّضوا له في الطفولة بالتأكيد. ولم يكن هذا صحيحًا، فتشتَّتت الكثير من العلاقات، ولم يتحسن المرضى كما ادَّعى (فرويد)!
ولم يكن التحليل النفسي إنجازه الوحيد لعلم النفس؛ بل أضاف (سيجموند فرويد) الكثير من النظريات الأخرى،
منها نظرية التطور النفسي الجنسي.
فرويد والتطور النفسي الجنسي
فسَّر فرويد التطور الجنسي للإنسان بأنه يمُرُّ بخمس مراحل منذ ولادته، وهي: الفَمِّية، والشرجية، والقضيبية، ومرحلة السكون، والمرحلة التناسلية.
وادَّعى أن أي خلل أو كبت -يحدث في أيٍّ من تلك المراحل- يؤثر في حياة الفرد وتكوُّن شخصيته الجنسية فيما بعد.
المرحلة الفمية (من 0-1 سنة):

يفسر (فرويد) تعلُّق الطفل بأمه -بواسطة الرضاعة- بأنه تلبيةٌ لاحتياج جنسي لديه في هذه المرحلة،
وأن فطامه المفاجئ، أو أي خلل يؤثر في رضاعته قبل بلوغه العامَ من عمره، يؤدي إلى تكوُّن بعض العادات الفَمِّية
التي ثبتَ عليها الطفل نتيجة هذا الخلل، كالتدخين أو أي عادة تتضمن فِعل المص.
المرحلة الشرجية (من 1-3 سنوات):
تشمل هذه المرحلة تدريب الطفل على استخدام المرحاض، ويدَّعي (فرويد) أن أي أفعال تتبعها الأم خلال هذه
المرحلة، كحثِّ الطفل على التأكد من نظافته بشكل متكرر بعد استخدام المرحاض، تؤثر في عادات الإخراج فيما بعد.
المرحلة القضيبية (من 3-6 سنوات):
يظهر سلوك تعلُّق الطفل بوالدته في هذه المرحلة فيما سمَّاه “عقدة أوديب“؛ فمن وجهة نظر (فرويد) يكون هذا التعلق
جنسيًا، حيث يشعر الطفل بالغيرة من والده، ويرغب في الاستحواذ على والدته دونه. وكذا الأمر بالنسبة للطفلة؛
فيما يُطلَق عليه “عقدة إليكترا“.
ويمُرُّ الطفل في هذه المرحلة بما يُعرَف بـ”قلق الخصاء”، إذ يشعر بالخوف من معاقبة والده له إذا عرف بمشاعره
تجاه والدته، فيكبِتها داخله.
ومع الوقت، تتكون لديه منظومة القيم والأخلاق، وهي ما سمَّاه “الأنا العُليا”، فيتخطى هذه المشاعر،
ويعود لحب والده واتخاذه مثلًا أعلى له.
ويرى (سيجموند فرويد) أن التثبيت على هذه المرحلة يظهر في سلوك الشخص في البحث عن شريك يشبه والده
-من الجنس الآخر- بعدما يكبر، ليرتبط به عاطفيًا ويشبع رغبته المكبوتة.
مرحلة السكون (من 7 سنوات إلى البلوغ):
لا يتأثر الطفل في هذه المرحلة بالمؤثرات حوله، إذ إن تخطِّيه للمراحل السابقة دون خلل، يجعله مستقِرًّا في رأي (فرويد).
ويقول البعض أن (فرويد) كان معتقِدًا أن علم النفس الفردي مشتقٌّ من الميراث البيولوجي لأحداث حدثت في التاريخ القديم، فاعتقد أن صدمات ما قبل التاريخ كانت لها تأثيرات مستمِرة في علم النفس البشري.
فأرجع اللا مبالاة والبرود الجنسي -في مرحلة البلوغ- إلى أنها إحدى تأثيرات العصر الجليدي!
المرحلة التناسلية (بعد البلوغ حتى نهاية الحياة):
هذه هي المرحلة التي يجني فيها الفرد نتائج ما مَرَّ به خلال طفولته ومراهقته، ليصبح مستقِرًّا جنسيًا كشخص بالغ.
فرويد والمرأة
كما ترى -عزيزي القارئ- فكثير من أفكار ومعتقدات (سيجموند فرويد) كانت مثيرة للجدل،
وواحدة من هذه المعتقدات هي تفسيره للمرحلة القضيبية بالنسبة للفتاة، إذ إنه لم يستطع تفسير تخطِّي الفتاة لهذه
المرحلة دون مرورها بما سمَّاه “قلق الخصاء”.
بل ذهب لما هو أبعد من ذلك، فافترض أن الفتاة تمُرُّ بما يُسمَّى “حسد القضيب”، إذ تشعر بالغيرة من أقرانها الفتية لعدم امتلاكها عضوًا ذكريًّا مثلهم!
ولذلك ترغب في الارتباط عاطفيًا بوالدها، لأنه أقرب إلى تعويضها عن هذا النقص الذي تشعر به!
لا تنتهي سقطات الحديث عن (فرويد) والمرأة، بل وضعته موضع إثارة للجدل والسخرية من أفكاره الغريبة التي لا
تحترم المرأة وتراها كائنًا دونيًا. ويُرجِع البعض آراء (فرويد) عن المرأة إلى أنها تُعبِّر عن نظرته الشخصية لها.
(فرويد) والأحلام
لن يسعنا سرد حديثٍ كافٍ هنا عن تفسير الأحلام بالنسبة إلى (فرويد)، لكنه اعتقد أن الأحلام بوابة للا وَعي الإنسان،
إذ تظهر فيها جميع رغباته المكبوتة، والتي ترجع إلى تفسيرات جنسية في رأيه في الأغلب!
وكتبَ أحد أشهر الكتب في هذا الشأن حتى يومنا هذا، وهو كتاب “تفسير الأحلام”.
كُتُب فرويد

كتب (سيجموند فرويد) العديد من الكتب التي لاقت رواجًا بعد عدة سنوات من نشرها، منها:
- تفسير الأحلام.
- خمس حالات من التحليل النفسي.
- ثلاثة مباحث في علم النفس.
- ما فوق مبدأ اللذَّة.
- الطوطم والتابو.
- الأنَا والهُوَ.
- التحليل النفسي للهستيريا.
وغيرها من الكتب التي وضع فيها إسهاماته في التحليل النفسي، وغيَّرَت مسار علم النفس إلى يومنا هذا.
لماذا ما زلنا نَدْرُسُ نظرياتِ (فرويد) في هذا الزمان؟
هناك الكثيرُ من الانتقاداتِ الموجهةِ إلى نظرياتِ (فرويد) التي تجدُها غيرَ قابلةٍ للدَّحْضِ في أغلبِ الأوقات؛
فقد وضعَها بطريقةٍ تجعلُها لا يمكنُ التحققُ منها تجريبيًا، ولا تتفقُ مع المعاييرِ الأخلاقيةِ اليوم،
إلا أننا لا نزالُ ندرسُ ما قدمَهُ لعلمِ النفْس.
كان (سيجموند فرويد) نِتاجَ عصرِه؛ نَعَم… هناك كثيرٌ من نظرياتِهِ لا يمْكنُنا قَبولُها بعدما توصَّل إليه العلمُ الحديث، لكنه خلقَ مَساحةً كبيرةً للعلماءِ للاستكشافِ والبناءِ عليها.
فكأيِّ مفكِّرٍ مشهورٍ في القرونِ السابقة، نجدُ له الكثيرَ من الأفكارِ الخياليةِ بمعاييرِنا اليوم، بل إنه بَنى بعضَ نظرياتِهِ على الأفكارِ التي عَفا عليها الزمنُ حتى في عصرِه!
لكننا -مع هذا- لا يمكننا إنكار ما قدمه من إسهامات نتيجة هذه السقطات، أو نتيجة تطبيقات خاطئة لأتباعه.
فالأنا والهُو، وعقدة أوديب، وآليات الدفاع، ورغبات الموت، كلها أفكار ومصطلحات “فرويدية”.
وتقنيات العلاج الحديثة التي يعتمد عليها الكثير من الناس، كانت نِتاج ما بدأه في مجال التحليل النفسي.
نعم… ارتكب (فرويد) الكثير من الأخطاء، والعديد من أفكاره لا تتناسب مع العلم الحديث، لكنه في ذات الوقت أشعل ثورة في علم النفس والاجتماع.
فهل يستحق اللوم؟ أَمْ الفخر ورد الاعتبار؟ هكذا يستمر حكم التاريخ…