علم النفس المعرفي (Cognitive Psychology)

هل سبق لك أن تساءلتَ عن سبب تذكر تفاصيل معينة دون حتى أن تحاول، رغم أن ثمة معلومات أخرى مهمة تتفلت من ذهنك بسرعة؟!
هذا مجرد مثال واحد على نوع الأسئلة التي يحاول علم النفس المعرفي الإجابة عنها.
فما هو علم النفس المعرفي؟ ومتى نشأ؟ وما أهم تطبيقاته؟
علمُ النفس المعرفي… ما هو؟
علم النفس المعرفي هو أحد فروع علم النفس المهتم بدراسة الإدراك البشري، والذي يحقق في كل قدراتنا العقلية الداخلية،
مثل: الإدراك والتعلم، والتذكر، والتفكير، والاستدلال، والفهم.
ويدرس علم النفس المعرفي كيفية اكتساب الناس للمعرفة أو المعلومات وتطبيقها، وذلك من خلال ارتباطه بالعلوم المعرفية متعددة التخصصات، وتأثره بعلوم ومجالات عديدة، مثل:
- الذكاء الاصطناعي.
- علوم الكمبيوتر.
- الفلسفة.
- الأنثروبولوجيا.
- علم الأحياء.
- علم الأعصاب.
ويُعَدُّ مجال علم النفس المعرفي أحد المجالات سريعة النمو، ولا يزال يضيف إلى فهمنا للتأثيرات العديدة التي تُحدِثها العمليات العقلية في صحتنا، وفي حياتنا اليومية كذلك.
ويبدو -ظاهريًا- أن البحث في علم النفس المعرفي أكاديمي وبعيد عن المشكلات التي نواجهها في الحياة اليومية.
إلا أن نتائج مثل هذه الأبحاث العلمية تلعب دورًا في كيفية تعامل المتخصصين مع علاج الأمراض العقلية، وإصابات الدماغ،
وأمراض الدماغ التنكسية.
نشأة وتاريخ علمِ النفس المعرفي
منذ آلاف السنين، كانت معرفة الطُرق التي يؤثر بها الفكر في السلوك محط اهتمام من الإنسان الأول، إذ شغلت باله وجوارحه ولا تزال.
ففي كتابات الإغريق والمصريين القدماء، ترى العديد من النقوشات المرسومة على الحجارة، تتمحور حول التفكير وتفاعله مع السلوك البشري.
تود الحصول على المزيد من المقالات المجانية على ترياقي؟ اشترك الآن ليصلك كل جديد!
ويرجِع بعض المؤرخين الاستفسارات المنشورة حول الإدراك البشري إلى أفكار أرسطو المدونة في كتابه الشهير (On Memory and Reminiscence).
في القرن التاسع عشر، اكتشف عالِم التشريح الفرنسي (بول بروكا) منطقة تقع في الفص الجبهي للدماغ حيث يتم إنتاج اللغة،
والتي عدَّت سابقةً ودليلًا دامغًا على تموضع الوظائف المخية.
كان لهذا الاكتشاف وغيره أثر كبير في تشكيل علم النفس المعرفي، كأحدث أشكال علم النفس العلمية.
وبدأت الأصول الفكرية لعلم النفس المعرفي بمقاربات معرفية للمشكلات النفسية -بنهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين-
في أفكار علماء النفس: (فيلهلم فونت)، و(رايموند كاتل)، و(ويليام جيمس).
تراجع علم النفس المعرفي في النصف الأول من القرن العشرين مع ظهور مصطلح “السلوكية”، والتي كانت النظرية السائدة في علم النفس.
وتبنَّت السلوكية دراسة القوانين المتعلقة بالسلوك الذي يمكن ملاحظته بظروف التحفيز، والتي يمكن ملاحظتها بدورها دون اللجوء إلى العمليات العقلية الداخلية.
الظهور الثاني لعلم النفس المعرفي

ظلَّت السلوكية مهيمنة حتى خمسينيات القرن الماضي، ومع نشوب الحرب العالمية الثانية، إذ بزغت عدة عوامل جعلت دراسة الفكر مهمة بشكل متزايد.
فقد احتاج الجنود إلى التدريب على استخدام تكنولوجيا الحرب الجديدة، وأتت علوم الكمبيوتر بمقارنات بين الفكر البشري ووظائف الكمبيوتر.
فبدأ الباحثون بالعديد من المجالات في تطوير نظريات العقل على أساس التمثيلات المعقدة، والإجراءات الحسابية.
انتقد الفيلسوف الأمريكي (نعوم تشومسكي) السلوكية، فقد أدى عدم فهم العمليات العقلية الداخلية إلى عدم التمييز بين الذاكرة والأداء، وفشلت السلوكية في تفسير التعلم المعقد.
مما أدى في الأخير إلى انحسار السلوكية، وبزوغ علمُ النفس المعرفي الذي يقدم طريقة أفضل لدراسة العقل البشري ونظريات تعلُّمه،
حتى صار علمًا سائدًا تُدرَّس أُسُسه في جامعات العالم المرموقة.
ويُعَدُّ عالِم النفس الأمريكي (آرون بيك) الأب الروحي والمؤسس الحقيقي لعلمِ النفس المعرفي، حيث نشر أكثر من خمسمائة بحث،
وألف أكثر من سبعة عشر كتابًا في هذا المجال.
ولعل أفضل ما تميز به الظهور الثاني له هو كتاب “علمُ النفس المعرفي – Cognitive Psychology” -لعالِم النفس الشهير (أولريك نيسر)- الذي نُشِر لأول مرة عام 1979.
أهمية علمِ النفس المعرفي (Cognitive Psychology)
إن تعلُّم المزيد عن كيفية تفكير الناس ومعالجتهم للمعلومات لا يساعد الباحثين فقط على اكتساب فهم أعمق لكيفية عمل الدماغ البشري، ولكنه يسمح أيضًا لعلماء النفس بتطوير طُرق جديدة لمساعدة الناس على التعامل مع الصعوبات النفسية.
وقد حسَّنت نتائج دراسات علمُ النفس المعرفي كذلك من فهمنا لكيفية تكوين الناس للذكريات، وتخزينها، واستدعائها عند الحاجة.
ومن خلال معرفة المزيد حول كيفية عمل هذه العمليات، يمكن لعلماء النفس تطوير طرق جديدة لمساعدة الناس على تحسين ذاكرتهم، ومكافحة مشكلات الذاكرة المحتملة.
ومن المفاهيم الخاطئة الشائعة أن علماء النفس المعرفي يحاولون في نهاية المطاف علاج الاضطرابات المعرفية، مثل اضطراب نقص الانتباه.
لكنهم في الواقع مهتمون ببحث ودراسة جوانب مختلفة من الإدراك (مثل: الانتباه، والذاكرة، والوعي)، ويركزون بالأساس على فهم كيفية عمل الإدراك لدى الفرد.
وبفضل دراسات باحثي علم النفس المعرفي السلوكي، يمكننا تحديد طرق أفضل لقياس القدرات الفكرية للإنسان،
وتطوير استراتيجيات جديدة لمكافحة مشكلات الذاكرة، وفك تشفير عمل الدماغ البشري.
ولكل ذلك تأثيرات فعالة بنهاية المطاف في كيفية تعاملنا مع الاضطرابات المعرفية السلوكية، من خلال فهم كيفية تغير العمليات المعرفية على مسار نمو الطفل، وكيفية تحويل الدماغ للمدخلات الحسية إلى تصورات.
أسس علم النفس المعرفي
يعتمد علم النفس المعرفي على فرضيتين:
الأولى: أنه يمكن الكشف عن الإدراك البشري بالكامل من خلال الطُرق العلمية، أي أنه يمكن تحديد وفهم المكونات الفردية للعمليات العقلية.
الثانية: أنه يمكن وصف العمليات العقلية الداخلية في نماذج معالجة المعلومات.
وتعَدُّ التجارب والمحاكاة والنمذجة أدوات البحث الرئيسية في علم النفس المعرفي، وفي كثير من الأحيان، تقارَن تنبؤات النماذج وتصوراتها مباشرة بالسلوك البشري.
ومع سهولة الوصول والاستخدام الواسع لتقنيات تصوير الدماغ، شهد علم النفس المعرفي تأثيرًا متزايدًا لعلم الأعصاب الإدراكي خلال العقد الماضي.
وينطوي علمُ النفس المعرفي المعاصر على ثلاثة مناهج رئيسة:
- علمُ النفس المعرفي التجريبي
ينبثق علمُ النفس المعرفي التجريبي من علمِ النفس المعرفي -باعتباره أحد العلوم الطبيعية- ويطبِّق طرقًا تجريبية للتحقيق في الإدراك البشري.
- علمُ النفس المعرفي الحسابي
يطور علمُ النفس المعرفي الحسابي نماذج رياضية وحسابية رسمية للإدراك البشري، تعتمد على الأشكال التخطيطية والأنظمة الديناميكية.
- علمُ النفس المعرفي العصبي
يستخدم علم النفس الإدراكي العصبي تصوير الدماغ -مثل: التصوير المغناطيسي للدماغ (MEG)، مخطط كهربية الدماغ (EEG)،
الرنين المغناطيسي الوظيفي (FMRI)، وغيرها- لفهم الأساس العصبي للإدراك البشري.
وغالبًا ما تكون المناهج الثلاثة مترابطة، وتوفر رؤى مستقلة ومتكاملة في كل مجال فرعي من فروع علمِ النفس المعرفي.
علمِ النفس المعرفي وتطبيقاته المادية

أنتجت أبحاث علم النفس المعرفي مجموعة واسعة من المبادئ والتطبيقات الناجحة؛ من الأنظمة البسيطة غير المعقدة،
إلى البرامج ذات الإنتاج الضخم والإلكترونيات الاستهلاكية. وساهمت في:
- تطوير أجهزة الكمبيوتر، من خلال تلبية احتياجات المستخدمين في توفير المعلومات المطلوبة.
- تطوير بنية أساسية مرنة للمعلومات تعتمد على أساليب التفكير.
- تطويرُ أدوات ذكية في الصناعة المالية.
- تطوير روبوتات ذكية متنقلة يمكنها أداء المهام المخصصة عادةً للبشر.
- تطوير المكونات الإلكترونية للإدراك الحسي والمعرفي العصبي، واستخدامها في زراعة الأعضاء، مثل زراعة القوقعة وشبكية العين.
مجالات استخدام علمِ النفس المعرفي
ولعلم النفس المعرفي تطبيقات عديدة هامة، نذكر منها:
- التطور الأخلاقي: يشمل هذا كيفية دراسة المعضلات الأخلاقية، والتوصل إلى حلول منطقية.
- شهادة شهود العيان: وتشمل دراسة كيفية تأثر شهادة الشاهد بالتوتر، أو التركيز على أسئلة المحقق.
- تحسين ذاكرة الأشخاص الذين يعانون نسيان الذكريات قصيرة الأجل.
- معالجة المعلومات: بتحليل الطريقة التي تعالج بها أجهزة الكمبيوتر المعلومات، ومقارنتها بطريقة العقل البشري.
- الإدراك: وينطوي هذا على معالجة المدخلات الحسية، ودراسة كيفية تحويلها إلى تصورات حسية.
- تنمية الطفل، والتعامل مع العمليات المعرفية في أثناء نموه، ودراسة تقنيات التعلم الأكثر فعالية.
- العلاج السلوكي المعرفي: ويستخدَم هذا العلاج حقيقة أن أنماط التفكير يمكن أن تؤثر في السلوك، لمساعدة الأشخاص الذين يعانون مشكلات الصحة النفسية، كالرهاب مثلًا.
كل ما تحتاج معرفته عن العلاج السلوكي المعرفي داخل هذا المقال.
وفي بيئات التجارب السريرية، يسعى باحثو علم النفس المعرفي لعلاج المشكلات المتعلقة بالعمليات العقلية البشرية، بما في ذلك:
- مرض ألزهايمر.
- مرض الخرف.
- صعوبات الكلام.
- فقدان الذاكرة.
- المشكلات الإدراكية أو الحسية.
- صعوبات التعلم.
يعَدُّ علم الأعصاب وعلم النفس المعرفي من أكثر مجالات التخصص النفسي تنوعًا اليوم، واثنين من أكثر المجالات المطلوبة.
وأصبحت دراسة كيفية معالجة الدماغ للبيانات محطَّ اهتمام لكل من المعلمين، ومصممي المناهج الدراسية، والمهندسين، والعلماء،
والقضاة، ومسؤولي الصحة والسلامة، ومصممي الجرافيك.
وصارت أبحاث علم النفس المعرفي وتطبيقاته جزءًا لا يتجزأ من عمل المنظمات، والمدارس، والشركات.
استخدام النظرية المعرفية لعلاج الرهاب والاضطرابات النفسية الأخرى

بالإضافة إلى زيادة فهمنا لكيفية عمل العقل البشري وتحليله للمعلومات، كان لمجال علم النفس المعرفي أيضًا تأثير كبير في مناهج الصحة العقلية.
فقبل سبعينيات القرن الماضي، ركَّزت العديد من مناهج الصحة العقلية بشكل أكبر على أساليب التحليل النفسي والسلوكية والإنسانية.
وركَّزت ما تُسمَّى بـ”الثورة المعرفية” -التي حدثت خلال هذه الفترة- على فهم الطريقة التي يعالج بها الناس المعلومات،
وكيف يمكن لأنماط التفكير أن تساهم في المشكلات النفسية.
وبفضل البحث الدؤوب في هذا المجال من قِبل علماء المتخصصين في علم النفس المعرفي، طور علماء النفس طُرقًا جديدة لعلاج الاكتئاب، والقلق، والرهاب، والاضطرابات النفسية الأخرى.
تهدف هذه الطُرق إلى تصحيح المفاهيم، وتغيير المعتقدات الخاطئة السلبية لدى المريض عن مرضه، واستبدالها بأخرى أكثر إيجابية،
للتخلص من الفوبيا المصاب بها.
وللمزيد حول العلاج بالتعرض وطُرقه، اقرأ هذا المقال.
ولا يزال العقل البشري يثبت لنا يومًا بعد يوم دقة صنعه، وعظمة صانعه!