غرفة الرعاية المركزة| الأرواحُ تُحصَدُ واحدةً تلوَ الأخرى!

تلقى (دونج شينج جو – Dongchen Zhou) -طبيب قلب ممارس بمقاطعة (تشجيانغ) في الصين- طلبًا للتطوع في مستشفى عزل بمدينة (ووهان).
غادر (دونج شينج جو) إلى ووهان -بؤرة تفشِّي كورونا- تاركًا خلفه زوجته وأطفاله، وانضم طبيب القلب صاحب الأربعين عامًا إلى فريق مكوَّن من 400 طبيب في فبراير 2020، ليكونوا في الصفوف الأمامية لمواجهة جائحة كورونا.
يقول (دونج شينج جو):
“لم أكن أتخيل أبدًا أن تأتي اللحظة التي أذهب فيها إلى (ووهان)، لكنني كنت مؤمنًا بأن عدم وجود خط مواجهة آمن -من الأطباء- سيجعل كل الأماكن غير آمنة. لذا، لم أتردد لحظة لتلبية نداء الواجب، خاصةً أن تخصصي في الفسيولوجيا الكهربية للقلب يُعَدُّ مفيدًا لبعض المرضى هناك”.
في عالم آخر موازٍ، وتحديدًا في لندن…
مارس 2020 هو الوقت الذي أنهى فيه مئات الطلاب في لندن دراستهم -في السنة الأخيرة- بكلية الطب مبكرًا، وبدأوا بالعمل في الصفوف الأمامية لمواجهة جائحة كورونا، ومنهم (شان ساهوتا)؛ بطلة القصة الثانية.
تقول (شان ساهوتا)، طبيبة حديثة التخرج في إحدى مستشفيات العزل:
“خلال الشهر الماضي، ضربت جائحة كورونا أرجاء البلاد، حينها بدأت العمل في المستشفى كممارس عام أُشرِف على حالات الموجة الأولى من فيروس كورونا. نُقِلتُ مع زملائي من قسم الجراحة إلى غرفة الرعاية المركزة، ولم نجد من يُعِدَّنا لمواجهة هذه الأزمة؛ كنا دائمًا نتحدث عن جائحة كورونا من منظور بعيد، يختلف تمامًا عن الحقيقة التي واجهناها ونحن في الصفوف الأمامية!”.
اختلفت البلدان وتعددت الأسماء، أما الحقيقة التي يعيشها الأطباء… فهي متشابهة ومتكررة يومًا بعد يوم!
الزي الواقي
قفازات، وأقنعة، ونظارات، وملابس واقية متعددة الطبقات… يرتدي الأطباء كل هذه المعدات الطبية يوميًا، وتستغرق منهم وقتًا طويلًا لتحضير أنفسهم قبل الدخول إلى الجناح الخاص بالمرضى.
تود الحصول على المزيد من المقالات المجانية على ترياقي؟ اشترك الآن ليصلك كل جديد!
لا بُدَّ من التأكد من عدم وجود أي أجزاء مكشوفة، وفحص مُعَدَّات الحماية الطبية لبعضهم البعض -كل 30 دقيقة- حتى لا يصابوا بالعدوى.
احذر… منطقة كوفيد!
الأصوات الحادة من جهاز الإنعاش القلبي، صوت صفير قادم من أجهزة التنفس الصناعي، صرير الإنذار الذي يعمُّ المكان ويشير إلى حدوث أمر غير طبيعي، هذا ما ستسمعه إذا دخلت وحدة العناية المركزة لمرضى الكوفيد.
عالم كئيب يأوي صفوفًا من المرضى فاقدي الوعي متصلين بالأنابيب، وفريقًا طبيًا كاملًا مُنصَبًّا على تنفيذ مهامه الشاقة في صمتٍ تام؛ فلا وقت للثرثرة، أو أخذ استراحة لتناول الطعام، أو الذهاب إلى المرحاض!
يُقلَب المرضى بصفة مستمرة، لتجنب قُرَح الفراش. وعلى الجانب الآخر، عشرات الأقارب يودِّعون مرضاهم باكين عبر تطبيقات الإنترنت.
يعمل الأطباء في ورديات بالتناوب، تستغرق كل وردية ثمانية ساعات أو أكثر من العمل المتواصل، لا يتمكنون من تناول الطعام أو الشراب، أو حتى استخدام المرحاض، حيث إن مغادرة الجناح تستغرق الكثير من الوقت، وإزالة جميع الملابس الواقية بأمان لا بُدَّ أن تتم تحت الإشراف!
هل يحتاج الأطباء إلى علاج ما بعد الصدمة؟
يتعرض الأطباء إلى ظروف نفسية سيئة، وضغوطات شديدة غير مسبوقة منذ بدء جائحة كورونا؛ فقد أثرت -ولا زالت تؤثر- في صحتهم العقلية والبدنية.
حذَّر بعض المتخصصين في المجال الصحي من أن الأطباء والممرضين قد يحتاجون إلى علاج لاضطرابات ما بعد الصدمة، والناتجة عن الظروف المروِّعة التي تواجههم في وحدات العناية المركزة، خاصة بعد وصول الأزمة إلى ذروتها.
يقضي الأطباء ساعات طويلة في غرفة العناية المركزة -في حرارة الجو المرتفعة- مجبرين على ارتداء معدات الحماية متعددة الطبقات.
يحاولون التكيف وسط نقص المعدات الطبية، وتزايد عدد الحالات الذي أدى إلى تقلُّص نسبة الأطباء إلى المرضى، ويُشكِّل ذلك عبئًا جديدًا على العاملين في القطاع الطبي.
يقول الدكتور (دان مارتن) -رئيس وحدات العناية المركزة في مستشفى (رويال فري) بلندن- في مذكرة شاركها عبر الإنترنت:
“أصبح معدل العمل في معظم المراكز ممرِّضًا لكل 6 مرضى، بعد أن كان ممرِّضًا لكل مريض”.
وأضاف:
“ليس هناك وقت للتدريب؛ وضعنا هذا الأمر جانبًا لأنها مهمة صعبة، وأصبح العاملون يتدربون أثناء العمل. بعض المراكز استعانت بكل ما لديها من موظفين، بدءًا من طلاب الطب إلى أطباء الأسنان!”.
كل هذه الأسباب تعرض الطبيب للإجهاد كرد فعل جسدي طبيعي، وقد يسبب ذلك الكثير من الأمراض المزمنة، على سبيل المثال: ارتفاع ضغط الدم، والاكتئاب، وأمراض القلب، والسكتة الدماغية، والقرحة، وآلام الظهر، والصداع، وعسر الهضم، والعديد من المشاكل الأخرى.
كيف يتخلص الطبيب من الضغوط النفسية؟
يمكن أن تؤدي الضغوط النفسية التي يمُرُّ بها الطبيب إلى عواقب وخيمة تنعكس على حالته الصحية والاجتماعية إذا لم تُدَر بطريقة صحيحة. لذا، يُنصَح باتباع الآتي:
- دوِّن مذكراتك
ابدأ في تدوين مذكراتك اليومية، واذكر المواقف المؤثرة التي تتعرض لها، والتحديات الصعبة التي تمُرُّ بها يوميًا في غرفة العناية المركزة؛ يساعد ذلك على التخفيف من التوتر والضيق، وأحاسيس الإحباط التي قد تسيطر عليك.
- تعلَّم الإنفصال المهني
تعلَّم اكتساب هذه المهارة حتى تهوِّن على نفسك مصاعب مهنتك، تذكَّر دائمًا أن الحالة الصحية التي يعانيها المريض هي بسبب مرضه، وليست انعكاسًا لرعايتك أو أدائك الوظيفي، ولا تدلُّ على وجود أي تقصير من جانبك.
- كُن هادئًا
حاوِل أن تحافظ على هدوئك واسترخائك، حتى تتمكن من إيجاد حلول مناسبة لمشكلاتك.
- اِبقَ إيجابيًّا
عندما يتمكن منك الإحباط، خُذ قسطًا من الراحة؛ اذهب إلى غرفة منفصلة وخُذ نفسًا عميقًا، وحاوِل أن تتذكر أنك تقوم بعمل عظيم يُحدِث فرقًا في حياة الناس، إنه حقًا لشرف عظيم!
- سامِح نفسك
سامِح نفسك إذا أخطأت؛ أنت بِشر مثلنا جميعًا، وكلنا نقع في فخ الأخطاء، لكن اعمل على تدارك الخطأ لاحقًا، وابذل قصارى جهدك للتعلم منه.
- استشِر طبيبًا متخصصًا
لا تتردد في أن تحصل على الاستشارة والدعم من أهل الخبرة، حتى لا يتمكن اليأس منك.
أطباء وحدة العناية المركزة (ICU)
نتطرق في هذه الفقرة إلى الحالة النفسية التي يمُرُّ بها أطباء العناية المركزة، سواء في فترة كورونا أو قبلها.
تُعَدُّ مهنة الطب من أكثر المهن إجهادًا، خاصة أطباء العناية المركزة، إذ يُشكِّل التعامل مع الموت مصدرًا أساسيا للتوتر لهم لأنهم مسؤولون عن حياة الإنسان، ويعلمون أن التهاون في اتخاذ قرارات مصيرية لإنقاذ المرضى قد يودي بحياتهم، ويجعلهم ذلك أكثر عرضة للإرهاق والإجهاد النفسي.
صُمِّمَت دراسة في فرنسا لتقييم الحالة النفسية لصغار وكبار الأطقم الطبية في 189 وحدة عناية مركزة، استجابت لها نسبة 75.5% من العاملين.
كشفت هذه الدراسة عن وجود أعراض الاكتئاب لِما يقرب من 23% من المشاركين، ورغبة 58% منهم في ترك وظائفهم.
أسباب ظهور أعراض الاكتئاب
- عبء العمل.
- وجود فاصل زمني طويل بين العطلات التي يحصل عليها الطبيب.
- الإرهاق العام.
- نقص معدات الحماية.
- رهبة الوقوع في خطر الإصابة.
- الخوف على ذويهم من الإصابة.
في نهاية المقال عزيزي الطبيب، نُقدِّر مجهوداتكم وتضحياتكم بأرواحكم وبحياتكم الشخصية والاجتماعية من أجل حمايتنا.
نعلم أنها أيام ثِقال، لكن المؤكد أنها ستمُر، ولن يبقى سوى فرحتكم بانتصاركم واعتزازنا بكم، دمتم خط دفاعنا الأول!
كتبته د.منى كرم