
مِكرٍ مِفرٍ مُقبلٍ مُدبرٍ معًا : كجلمودِ صخرٍ حطه السيل من عَلِ
قالها امرؤ القيس في وصف حصانه في معلقته؛ فهو معتاد الكر والفر في القتال، وينتهج الهجوم ثم التراجع ليهجم ثانية بقوة أشد.
يقول أن فرسه شديد الإقدام والإدبار معًا، يقصد بذلك التضاد إظهار القوة والسرعة في أداء الكر والفر. معنى الكر هو الهجوم والقتال والإقدام، أما الفر فهو الهروب أو التراجع.

عزيزي القارئ…
(الحرب خدعة) جملة اشتهر استخدامها للتعبير عما تمارسه قوتان متحاربتان من خلال مناوشات ينهك بها كل طرف قُوى الآخر؛ ومن ثَم وُجدت استراتيجيات وتكتيكات حربية كثيرة، ومن أهمها نظرية الكر والفر.
وقد كان الشعب الروماني أول من استخدمها في جيشه، وحقق بها السلاجقة انتصارات، وبَرعت الجيوش الإسلامية في استخدامها.
استراتيجية تحقق كثيرًا من النتائج عن طريق عمليات متكررة ومتلاحقة يقصد بها إضعاف العدو وتشتيته.
دعونا نتحدث عن تلك النظرية، ولكن من اتجاه آخر.
سنتناولها ليست كقرار؛ ولكن كرد فعل تلقائي، واستجابة جسدية.
نظرية الكر والفر وعلاقتها بالجهاز العصبي

هي استجابة تلقائية رزقنا بها المولى للحفاظ على الحياة، تُهيئ الجسم للقتال والمواجهة أو الفرار؛ فكان معنى الكر هنا هو بقاء الجسم لمواجهة التهديد، والفر هو الهروب إلى بر الأمان.
تود الحصول على المزيد من المقالات المجانية على ترياقي؟ اشترك الآن ليصلك كل جديد!
الجهاز العصبي
نِعم الله علينا لا تُعد ولا تُحصى، وعجائب قدرته في أجسامنا ما زالت ولا تزال تتجلى، وأجزاء الجسم وأجهزته سبحان من خلق فصور!
خلق الله جهازنا العصبي بقدرة وكفاءة فائقة وإبداع رائع، وأعز الإنسان عن سائر المخلوقات بالمخ؛ فأصبح قادرًا على النطق والتعبير عن الأفكار والمشاعر.
يمكننا تقسيم الجهاز العصبي بطريقتين:
- تقسيم يعتمد على موقعه:
– مركزي: (يتكون من المخ والحبل الشوكي) ويوجد في الدماغ والقناة الشوكية.
– طرفي: (يتكون من باقي أعصاب الجسم).
- تقسيم يعتمد على التحكم:
– الجهاز العصبي الذاتي (اللاإرادي).
– الجهاز العصبي الجسدي (الإرادي).
سنتناول في مقالي هذا نظرية الكر والفر التي تعتمد على الجهاز العصبي، لذا سنتناول بعض المعلومات التي ترتبط بحدوثها؛ تختص تلك المعلومات بالجهاز العصبي اللا إرادي، واستجابة القتال أو الهروب أو ما تعرف بنظرية الكر والفر (Fight or Flight response)، وهي المرحلة الأولى في متلازمة التكيف العام وتعرف بـ (مرحلة الإنذار).
إن الجهاز العصبي اللا إرادي ينقسم إلى:
- الجهاز العصبي الودي (السمبثاوي): الذي يتحكم ويمد الجسم باحتياجاته وقت التعرض لخطر أو ضغوط أو في أوقات النشاط، وهو المسؤول عن حدوث استجابة الكر والفر في الجهاز العصبي.
- الجهاز العصبي اللا ودي (الباراسمبثاوي): يقوم بتأثير مضاد للجهاز الودي؛ إذ يعمل على ارتخاء الجسم واستقراره وضبط مستويات العلامات الحيوية له (درجة الحرارة ومعدل نبض القلب ومعدل التنفس وضغط الدم وغيرها)، ويتحكم في وظائف الجسم وقت الراحة؛ لذا يمكننا القول بأنه جهاز مراقبة استقرار الجسم.
نظرية الكر والفر في الجهاز العصبي
يوازن الجهاز العصبي المركزي بين هذين الجهازين (الودي واللا ودي)؛ إذ يحتاج الجسم أن يعمل كلاهما بكفاءة ودقة معًا حتى يكون في حالته الصحيحة.
فإذا ما تعرض الإنسان إلى خطر أو ضغوط وبدأت استجابة الكر والفر كرد فعل تلقائي سريع بدون تفكير، والتي يستطيع الجسم من خلالها حماية نفسه عن طريق (الجهاز السيمبثاوي)؛ يبدأ الجسم في استغلال كل قوته وطاقته في العمليات الهامة، ويتوقف أداء العمليات الأخرى مؤقتًا، مثل: الهضم وغيرها، فيحدد الجسم أولوياته لاستغلال طاقته في الوظائف الأكثر أهمية لإنقاذ الحياة.
لكن جسمك يحتاج إلى عمل (الجهاز الباراسمبثاوي) في نفس الوقت ليستطيع استعادة حالته الطبيعية والرجوع إلى توازنه والاسترخاء.
عزيزي القارئ…
إذا شعرت باستجابة جسمك للضغط والإجهاد اليومي الذي لا يسبب تهديدًا للحياة باتباعه نظرية الكر والفر (Fight or Flight response)، فعليك أن تحذر! إن ذلك يدل على أن الجهازين الودي واللا ودي فقدا تناغمهما في الأداء.
أخبرنا أحد العلماء أن التوتر المزمن يؤدي إلى التعرض إلى استجابة الكر والفر فترات طويلة ودون مبرر مقنع؛ لأن كثيرًا من الضغوط التي لا تهدد الحياة قد يتفاعل معها الجهاز العصبي ويبدأ تلقائيًا في مرحلة الإنذار التي تتعامل باستجابة الكر والفر، دون قدرة الجهاز العصبي على التحكم ومنع حدوثها. ومن ثَم يحدث أثر سلبي ومدمر مسببًا اضطرابات القلق.
تحفيز خاطئ لنظرية الكر والفر
قد يحدث تحفيز خاطئ لرد فعل الكر والفر؛ مما يسبب توترًا مزمنًا، وذلك في الحالات الآتية:

- تعرض بعض الأشخاص إلى رد فعل الكر والفر تجاه أمور غير مهددة للحياة، مثل: أمور في العمل، أو الزواج،
أو إهمال الابن لنظافته، أو أمور مالية.
- التعرض ثانية إلى مواقف أدت إلى تهديد حقيقي واستجابة الجسم بحدوث رد فعل الكر والفر، فيتسبب ذلك في
حدوث خوف عام من ذلك المؤثر، مثل: الخوف من القيادة بعد التعرض لحادث سيارة، أو تنشيط رد فعل الإنذار إذا تواجد الشخص في نفس مكان الحادث.
لذا فإن إدارة التوتر أمر بالغ الأهمية للحفاظ على الصحة العقلية والجسدية؛ لذا -عزيزي القارئ- إذا لاحظت قلقك
وتوترك بشدة لأمور وضغوط غير مهددة للحياة، وبدء استجابة الكر والفر؛ فعليك التفكير بجدية لإيجاد حل لتلك المشكلة ومراجعة طبيب مختص.
إن نظرية الكر والفر في الجهاز العصبي مهمة جدًا وتتفاوت درجتها وسببها من شخص إلى آخر، ففهمها يساعدك
على استعادة السيطرة، وإدارة التوتر بطريقة جيدة.

تأثير نظرية الكر والفر في الجسم
يؤدي رد فعل الكر والفر إلى تغيرات هرمونية وفسيولوجية تلقائية وسريعة للحفاظ على الحياة، وتتيح لك فرصة للتصرف بسرعة وبطريقة مناسبة؛ ذلك عن طريق زيادة معدل ضربات القلب، فيزداد تدفق الأكسجين إلى عضلات جسمك، ويقل شعورك بالألم مع زيادة حدة السمع.
عند تعرضك إلى الخوف والتوتر وتهديد الحياة يبدأ الجهاز العصبي الذاتي بإدراك الخطر، ويتفاعل جزءاه تلقائيًا:
السيمبثاوي يؤدي إلى الكر والفر، بينما الباراسمبثاوي يؤدي إلى التجمد، فيستجيب الجسم برد الفعل تبعًا للجهاز المهيمن وقتها.
يبدأ الجهاز العصبي في إفراز هرمون الأدرينالين وهرمون التوتر (الكورتيزول)، وتؤثر تلك الهرمونات في:
- القلب: يزداد معدل ضربات القلب؛ فيزداد تدفق الأكسجين إلى العضلات.
- الدورة الدموية: اتساع الأوعية الدموية التي تمد العضلات، وانقباض التي تمد الجهاز الهضمي.
- الرئتين: اتساع وتمدد الشعب الهوائية وزيادة معدل التنفس؛ وعليه زيادة توافر الأكسجين في الدم، لكن في استجابة التجمد قد تحبس أنفاسك أو تقللها.
- الكبد: يزيد من تحويل الجليكوجين إلى جلوكوز لإمداد العضلات والهيكل العظمي وخلايا المخ بالطاقة اللازمة لرد الفعل.
- العين: اتساع حدقة العين للسماح بوصول كمية أكبر من الضوء؛ ومن ثَم زيادة الرؤية وحدة الإبصار،
وملاحظة ما يحيطك وأخذ الحذر. - الأذن: تزداد حدة السمع.
- الدم: تزداد لزوجة الدم، فتزداد نسبة عوامل التجلط مما يضر الجسم.
- البشرة: يقل تدفق الدم إلى الجلد؛ فيصبح شاحبًا وقد تشعر بالقشعريرة والبرودة مع زيادة إفراز العرق.
- الأطراف: يزداد تدفق الدم إلى الأجزاء الرئيسية والعضلات ويقل في الأطراف، فقد تشعر ببرودة قدميك ويديك.
- الشعور بالألم: تقلل استجابة الكر والفر من شعورك بالألم وإدراكه مؤقتًا.
الكر والفر في الحب
أوضحت الدراسات أن الحب والمودة والألفة لهم تأثير واضح في العقل والجسم، ويختلف ذلك التأثير في العلاقات الحديثة عنه في الزواج لفترة طويلة.
أوضحت الدراسات أن الحب يؤثر في استجابات الجسم وردود الفعل التلقائية، فيفرز هرمونات مختلفة تعتمد
على مراحل يمر بها الشخص وتؤثر في مشاعره.
قد يسبب الحب توترًا لبعض الأشخاص؛ إذ وُجد أن الوقوع في الحب قد يؤدي إلى إفراز هرمون الكورتيزول (هرمون التوتر)، مسببًا تزايد النبض. وعليه فقد بدأت مرحلة الكر والفر، وعليك أن تقرر وتحدد الاختيار،
هل تستمر في تلك العلاقة والارتباط والزواج، أم الفرار والابتعاد؟!
وُجِد أن هناك هرمونات أخرى يساعد الحب على إفرازها، ويختلف تأثيرها في الجسم، مثل:
- الدوبامين: ويفرز كرد فعل بعد أداء أشياء تشعرنا بالراحة، مثل قضاء وقت ممتع مع أسرتك أو من تحب.
- الأوكسيتوسين: يُفرز عند الأشخاص المتحابين ويساعد على تكوين الثقة والروابط.
إن العلاقات الإنسانية صعبة، والإبقاء على السعادة والحفاظ عليها مع شخص آخر يلزمه كثير من بذل الجهد والتحديات، حتى وإن كنت تُكِن له الحب والاحترام والرعاية؛ فكل العلاقات تتغير وتتأثر بمرور الوقت ومواجهة المشكلات.
ولذلك، وبعيدًا عن الكر والفر كرد فعل تلقائي، هناك قرار الكر أو الفر الذي تتخذه للبقاء أو المغادرة، وبين القرارين
منطقة مليئة بالأسباب التي قد تجعلك تبقى رغم عدم سعادتك، أو تغادر رغم شعورك بالسعادة في بعض الأوقات!
عزيزي القارئ…
يمكننا القول أن نظرية الكر والفر وسيلة لإنقاذ الحياة، فلا تجعلها تسيطر عليك وتتملكك، فتصبح في توتر دائم،
يداهمك الخوف والقلق.
دافع عن نفسك واجعلها معك وليست ضدك.