نظرية باندورا – التربية بالقدوة أعظم من النصيحة

هل تتذكر تعلُّم ركوب الدراجة؟
أراهن أنك تعلمت هذه المهارات من خلال مشاهدة شخص آخر يركب دراجته.
هذا ما يعتقده “ألبرت باندورا“، عالِم النفس المعرفي الاجتماعي.
ولأن التعلم عملية معقدة تتأثر بمجموعة متنوعة من العوامل، يمكن أن تلعب الملاحظة دورًا حاسمًا في تحديد كيف يتعلم الأطفال، وما الذي يتعلمونه.
حاولَتْ كثير من نظريات علم النفس تفسير السلوك البشري المعقَّد، وعنِيَ بعض منها بعوامل داخلية -تعمل على مستوى الشعور- كمحدد رئيس للسلوك.
في حين أن البعض الآخر قد أهمل هذا الجانب، ووضع اهتمامه في العوامل الخارجية البيئية القابلة للملاحظة والقياس.
في مقالتنا هذه، نلقي نظرة أكثر قربًا على نظرية التعلم الاجتماعي لـ”ألبرت باندورا”، وآثار هذه النظرية على تعلُّم الطلاب.
ما هي نظرية باندورا أو “التعلم الاجتماعي”؟
هي نظرية تبناها عالِم النفس الكندي “ألبرت باندورا” لفهم السلوك البشري، والتي تتلخص في أن اكتساب الشخص لأنماط سلوكية جديدة يتم من خلال الملاحظة.
يُطلَق على نظرية باندورا أحيانا “نظرية التعلم بالنمذجة”، وتعني استخدام مثال أو نموذج اجتماعي كأداة فعالة للتعلم.
وتعد نظرية باندورا حلقة وصل بين النظريات المعرفية والنظريات السلوكية؛ فهي -في تفسيرها لعملية التعلم- تعتمد على خليط من المفاهيم المستمَدَّة من هذه النظريات.
تود الحصول على المزيد من المقالات المجانية على ترياقي؟ اشترك الآن ليصلك كل جديد!
غالبًا ما يتعلم الأطفال والبالغون أشياء ليس لديهم خبرة مباشرة معها؛ فالطفل الصغير يتعلم الحديث باستماعه لكلام الآخرين وتقليدهم.
وإذا لم تلمس -أنت- مضرب كرة تنس في حياتك، ودُعِيتَ لمباراة من صديق، فمن المحتمل أن تعرف كيف تضرب الكرة بالمضرب؛ هذا إذا كنت متابعًا لمباريات التنس الممتعة على التلفاز.
المفاهيم الأساسية لنظرية باندورا

حين أرسى “باندورا” قواعد نظريته، وضع ثلاثة مفاهيم أساسية لنظرية التعلم الاجتماعي، وهي:
- الناس يمكنهم التعلم من خلال الملاحظة.
- الحالات العقلية الداخلية جزء أساسي من هذه العملية.
- مجرد تعلُّم شيء ما، لا يعني أنه سيؤدي -بالضرورة- إلى تغيير في السلوك.
في عام 1977، كتب “باندورا” في كتابه “نظرية التعلم الاجتماعي“: “التعلم سيكون شاقًا للغاية -ناهيك عن الخطورة- إذا كان على الناس الاعتماد فقط على آثار أفعالهم لإعلامهم بما يجب عليهم فعله”.
ثم مضى يشرح وجهة نظره: “لحسن الحظ، يتم تعلُّم معظم السلوك البشري من خلال النمذجة؛ فمن مراقبة الآخرين، يُشَكِّل المرء فكرة عن كيفية أداء السلوكيات الجديدة، وفي مناسبات لاحقة تعمل هذه المعلومات المشفَّرة كدليل للعمل”.
ما هي عناصر نظرية باندورا؟
وضع “باندورا” أربعة عناصر لنظرية التعلم الاجتماعي، وهي بالترتيب:
- الانتباه
يحتاجُ المتعلِّمُ إلى الانتِباه، فإذا شُتِّتَ انتباهُه، فسيؤثرُ ذلك في جودةِ التعلُّم. وكلما كانَ النموذجُ أكثرَ إثارةً للاهتِمام، تعلَّمَ أسرع.
- الاحتفاظ
يحتاج المتعلم لاستيعاب المعلومات وتخزينها في الذاكرة طويلة المدى؛ بحيث يمكنه بعد ذلك أن يتذكرها لاحقًا عندما يواجه موقفًا مشابهًا.
- الإنتاج الحركي
يحوِّل المتعلم ما احتفظ به من سلوك النموذج إلى أنماط سلوكية جديدة.
- التحفيز
للحصول على أكبر قدر من النجاح لأي تعلُّم مُلاحَظ، تحتاج إلى التحفيز بما يكفي لتقليد السلوك الذي تم تصميمه.
كيف نشأت نظرية باندورا؟
كان أول مَنْ تحدَّث عن نظرية التعلم الاجتماعي هو عالِم الاجتماع “جابرييل تارد“، وكان أول مَنْ وضع مراحل التعلم الاجتماعي (الاحتكاك الشديد، تقليد المشرفين، فهم المبادئ، سلوك المثل الأعلى).
وفي كتابه “التعلم الاجتماعي وعلم النفس السريري”، اقترح “جوليان روتر” -عام 1954- أن أثر السلوك يدفع المرء لاتخاذ إجراء تجاه هذا السلوك.
والناس تسعى للنتائج الإيجابية، بينما تنفر من النتائج السلبية. لذا، فإنْ توقَّع المرء أن يعود سلوك معين بنتائج إيجابية، تزداد قابلية مشاركته الآخرين في هذا السلوك وتكراره.
وفي عام 1977، توسع “ألبرت باندورا” في أفكار مَنْ سبقوه.
فشملت نظريته التعلم السلوكي والإدراكي أيضًا، وأصبحت نظريته تشمل ثلاث نظريات مترابطة، وهي:
- التعلم السلوكي: وتعني أن بيئة الشخص المحيطة تدفعه للتصرف بطريقة معينة.
- التعلم الإدراكي: وتعني أن العوامل النفسية مهمة في التأثير في سلوك المرء.
- التعلم الاجتماعي: وتجمع بين العوامل البيئية والعوامل النفسية.
تجربة “دمية بوبو”

هي تجربة نفسية رائدة أُجرِيَت -في جامعة (ستانفورد) عام 1961- بهدف دراسة إذا ما كان سلوك الأطفال الاجتماعي يتأثر بالملاحظة، خاصة بعد مشاهدة تصرُّف شخص بالغ.
قاد “باندورا” هذه الدراسة، والتي جمع فيها أشخاصًا بالغين ليقوموا بضرب “دمية بوبو” أمام مجموعة من الأطفال في سن ما قبل الدراسة، ليراقب الباحثون تعامُل الطفل مع الدمية.
قسَّم “باندورا” الأطفال -وعددهم 72 طفلًا- إلى ثلاث مجموعات متساوية عددًا، كل مجموعة بها 12 طفلًا و12 طفلة:
- مجموعة “أ”: لاحظت نماذج سلوكية عدوانية للبالغين.
- مجموعة “ب”: لاحظت نماذج السلوك غير العدواني.
- مجموعة “ج“: لم تتعرض لأي نماذج سلوكية (المجموعة الضابطة).
وأُجرِيَت التجربة على ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: النمذجة
في الظروف التجريبية، وُزِّع الأطفال بشكل منفرد على غُرَف تحتوي على ألعاب، ولعبوا ببعض الصور لمدة عشر دقائق، ثم:
- تعرَّضت مجموعة “أ” لمشاهدة شخص بالغ (نموذج عدواني) يتعامل بقسوة تجاه لعبة تُسمَّى “دمية بوبو”؛ فتارة يستخدم مطرقة لضربها، وتارة يلقيها في الهواء.
- تعرَّضت مجموعة “ب” لنموذج غير عدواني؛ يلعب بطريقة هادئة لمدة عشر دقائق ويتجاهل “دمية بوبو” تمامًا.
- لم تتعرض مجموعة “ج“ لأي نموذج على الإطلاق، واستُخدِمَت كمجموعة ضابطة.
المرحلة الثانية: الإثارة العدوانية
تعرَّض جميع الأطفال -بما في ذلك المجموعة الضابطة- لـ”إثارة معتدلة”، حيث نُقِل كل طفل بشكل منفصل إلى غرفة بها ألعاب جذابة نسبيًا.
وبمجرد أن يبدأ الطفل باللعب، يخبره الباحث أن هذه الألعاب هي الأفضل، وأنه قرر حجزها لأطفال آخرين.
المرحلة الثالثة: اختبار التقليد المتأخر
احتوت الغرفة التالية على بعض الألعاب العدوانية، وبعض الألعاب غير العدوانية.
تضمنت الألعاب غير العدوانية: أقلام تلوين، وثلاثة دببة، وحيوانات مزرعة بلاستيكية.
وتضمنت الألعاب العدوانية: مطرقة، ومدافع رمي السهام، و”دمية بوبو”.
دُعِي الأطفال للبقاء في الغرفة لمدة 20 دقيقة، ولُوحِظَ سلوكهم من خلال مرآة أحادية الاتجاه، ثم دُوِّنَت النتائج.
المشاهدات
- الأطفال الذين لاحظوا النموذج العدواني (مجموعة “أ”)، قدموا استجابات عدوانية أكثر تقليدية بكثير من الأطفال الآخرين (مجموعة “ب” ومجموعة “ج”).
- كان هناك عنف جزئي وغير مقلَّد بين هؤلاء الأطفال الذين لاحظوا السلوك العدواني.
- قلَّدَ الأولادُ الأفعالَ العدوانيةَ جسديًا أكثرَ مِن الفتيات.
- كان هناك اختلاف بسيط في العدوان اللفظي بين الفتيان والفتيات.
النتائج
تدعم نتائج تجربة “دمية بوبو” نظرية التعلم الاجتماعي لـ”باندورا”؛ أي أن الأطفال يتعلمون السلوك الاجتماعي -مثل العنف– من خلال عملية تعلُّم الملاحظة (مراقبة سلوك شخص آخر).
كانت لهذه التجربة نتائج هامة في دراسة أثر تعرُّض الأطفال لمشاهد العنف على سلوكياتهم وشخصياتهم.
نقد نظرية باندورا
انتقد عدد من علماء النفس نظرية التعلم الاجتماعي والدراسات المختبرية للنمذجة، وإليك أشهر وجهات النظر ضد أفكار “باندورا”:
- اختلاف تفاعل النموذج والطفل بين التجربة والواقع لاختلاف النموذج نفسه (شخص غريب في التجربة، والأب أو المعلم في الواقع)، مما قد يؤدي لاختلاف النتائج.
- وُجِدَ أن الأطفال الذين لم يلعبوا مع “دمية بوبو” من قبل، كانوا أكثر عُرضة بخمس مرات لتقليد السلوك العدواني من أولئك الذين كانوا على دراية به. وذلك قد يعزز فكرة أن القيمة الجديدة للدمية تجعل من المرجح أن يقلد الأطفال هذا السلوك.
- يُقاس أثر اللقطات السريعة على الفور، لكن لا يمكننا اكتشاف ما إذا كان مثل هذا التعرض الفردي يمكن أن تكون له تأثيرات طويلة المدى.
- تجارِبُ “باندورا” غيرُ أخلاقيَّة؛ فلا يمكِنُنا التأكُّدُ أبدًا مِن العَواقِبِ طويلةِ المَدى التي قد يُعانيها الأطفالُ بعدَ التجرِبة.
واليوم، يدرك المربُّون والمعلمون أهمية النموذج والقدوة في تعلُّم أبنائهم سلوكيات جيدة، ودور المراقبة في اكتساب مهارات جديدة، حتى وإن لم يعرفوا سلفًا نظرية باندورا.
رائعة جدا