وظائف شقي الدماغ | نصف مخٍ واحدٍ يكفي!

كانت رحاب تبلغ من العمر 18 شهرًا فقط حين انتابتها نوبة التشنج الأولى!
كانت تلك بداية أعوامٍ طوالٍ مليئة بمعاناة النوبات المتكررة…
عجز الأطباء عن مساعدة الصغيرة رحاب بالأدوية والجلسات الكهربائية، واستمرت النوبات عامًا بعد عام.
لم يعد أمام تلك الأسرة الصغيرة سوى المخاطرة وإجراء العملية النادرة جدًا، باستئصال شق المخ مصدر النوبات.
استغرق اتخاذ القرار عامًا كاملًا من الاختبارات والتحاليل والاستشارات؛ للتأكد من ارتفاع نسبة نجاح العملية.
وأخيرًا، خضعت رحاب لعملية استئصال شق الدماغ الأيسر… فهل يستطيع الشق الأيمن أداء وظائف شقي الدماغ معًا؟!
وهل تستطيع أن تحيا حياةً طبيعية؟
قبل الإجابة عن هذه الأسئلة، دعونا نفهم أكثر عن وظائف شقي الدماغ الأيمن والأيسر.
وظائف الدماغ الأيمن والأيسر
ينقسم المخ البشري إلى ثلاثة أجزاء رئيسة:
- الدماغ: الجزء الأكبر من المخ البشري، يستقبل المؤثرات الحسية ويرسل الإشارات الحركية.
- المخيخ: يقع تحت الجزء الخلفي من الدماغ، وهو الجزء المسؤول عن تناغم حركات الجسد وتوازنها.
- جذع الدماغ: يقع في قاع الدماغ ويمتد لتكوين الحبل الشوكي، ويربط جميع أجزاء الجهاز العصبي ببعضها.
يتكون الدماغ البشري من شقين رئيسين (الأيمن والأيسر)، ويفصل بينهما الأخدود الطولي Longitudinal Fissure.
تود الحصول على المزيد من المقالات المجانية على ترياقي؟ اشترك الآن ليصلك كل جديد!
ويتكون كل شق من تلافيف Gyri يفصل بينها أخاديد أو شقوق Sulci أكبرها الأخدود المخي المركزي Central Sulcus.
وينقسم شق الدماغ إلى أربعة فصوص رئيسة:

- الأمامي: يقع أمام الأخدود المركزي، ومسؤول عن الحركات الإرادية والتخطيط والمشاعر الاجتماعية.
- الجداري: يقع خلف الأخدود المركزي، ومسؤول عن استقبال الإشارات الحسية، مثل: التذوق، واللمس، والحركة، والحرارة، والألم.
- الصدغي: يقع أسفل الفصين الأمامي والجداري، ويُفصل عنهما بالأخدود الجانبي، ومسؤول عن الذاكرة البصرية والسمع والتعلم واللغة.
- الخلفي: يقل في مؤخرة الدماغ، ومسؤول عن المعالجة البصرية.
يعمل العقل بصورة معكوسة؛ إذ يتحكم الفص الأيمن من المخ في القسم الأيسر من الجسم، ويتحكم الفص الأيسر من المخ في القسم الأيمن من الجسم.
قد يبدو للوهلة الأولى أن وظائف شقي المخ متماثلة…
لكن الدراسات أثبتت وجود بعض الاختلافات في وظائف شقي الدماغ الأيمن والأيسر، لكن كيف يعمل الشقين كوحدة واحدة؟
إنه بسبب الجسم الثفني أو الجسم الجاسئ الذي يربطهما ببعض.
الجسم الثفني
هل تملك عقلًا؟
الحقيقة أنك تملك عقلين منفصلين يصل بينهما حزمة ضخمة من الألياف العصبية تقع في الأخدود الطولي بينهما، وتسمى الجسم الثفني Corpus Callosum.
ويعمل كل شق من شقي المخ مستقلًا عن الآخر، ويتبادلان المعلومات بينهما عبر الجسم الثفني.
لاحظ العلماء هذا حين استدعت بعض حالات الصرع الشديد إزالة الجسم الثفني وقطع التواصل بين شقي المخ…
وكانت المفاجأة أن الأشخاص الذين خضعوا لهذه العملية عاشوا طبيعيًا بتأثيراتٍ طفيفة، وقلت لديهم نوبات التشنج.
قطع التواصل باستئصال الجسم الثفني أتاح للعلماء أيضًا فرصة دراسة كل فص على حدة، لمعرفة المزيد عن وظائف فصي الدماغ.
وظهرت نظرية التخصيص الجانبي للدماغ Brain Lateralization.
التخصيص الجانبي للدماغ Brain Lateralization

“التخصيص الجانبي للدماغ” نظرية تفيد بأن إحدى وظائف المخ تتركز في أحد الشقين أكثر من الآخر.
لا يوجد تخصيص جانبي كامل للدماغ، أي لا يوجد منطقة في أحد الشقين مسؤولة عن وظيفة محددة دونًا عن الشق الآخر…
لكن تتركز قدرة العقل على أداء تلك الوظيفة في أحد الشقين فقط أكثر من الآخر.
فأنت مثلًا -عزيزي القارئ- تتحكم بإحدى يديك بطريقة أفضل من الأخرى على الرغم من وجود مراكز التحكم بالعضلات في شقي المخ، إلا أن مركز التحكم في النصف المهيمن من عقلك أفضل من النصف الآخر.
إذن، كيف يوضح التخصيص الجانبي للدماغ اختلاف وظائف شقي المخ؟
1. الرؤية:
الشق الأيسر: يميز الحروف والكلمات والأرقام.
الشق الأيمن: يتعرف إلى الوجوه، ويميز تعابير الوجه، ويدرك الأنماط الهندسية.
2. السمع:
الشق الأيسر: يترجم اللغة المسموعة إلى معانٍ.
الشق الأيمن: يحلل الأصوات الأخرى -كالموسيقى وتغريد العصافير.
3. المهارات:
الشق الأيسر: يُعنى بمهارات الكتابة، والتحدث، والقراءة، والحساب.
الشق الأيمن: يقدر الأبعاد والمسافات، ويميز الحيز المكاني.
4. الذاكرة:
الشق الأيسر: يعالج الذكريات بما تحتويه من كلمات، ويحللها لاستخلاص المعاني منها.
الشق الأيمن: يعالج الذكريات البصرية والحسية، ويستدعي الجانب الحسي منها.
5. اللغة:
تعد اللغة أهم وظيفة دعمت نظرية التخصيص الجانبي للدماغ؛ ولهذا سنتحدث عنها بشيءٍ من التفصيل…
اقرأ المزيد عن الإعاقات العقلية.
هل يقع مركز اللغة في الفص الأيمن أم الأيسر من المخ؟
يقع المركزان الرئيسان المسؤولان عن اللغة في شق الدماغ الأيسر:
منطقة بروكا Broca’s area
تقع في الفص الأمامي، وهي مسؤولة عن ترجمة المعنى إلى لغة أو كلماتٍ مفهومة.
ويتسبب الخلل في منطقة بروكا في اضطراب القدرة على التحدث -مع الاحتفاظ بالقدرة على فهم اللغة المسموعة.
منطقة فيرنكيه Wernike’s area
تقع في الفص الجانبي، وهي مسؤولة عن تحليل كلمات اللغة وفهمها.
ويؤدي الخلل في منطقة فيرنكيه إلى اضطراب القدرة على فهم اللغة مع الاحتفاظ بالقدرة على الحديث، لكن الكلام المنطوق يكون مشتتًا وبلا معنى.

لا تعمل هاتان المنطقتان بمنأى عن باقي أجزاء شق الدماغ الأيسر، إذ تتضافر أجزاء المخ في عدة خطوات:
- استقبال اللغة المسموعة أو المقروءة في القشرة السمعية الأساسية أو القشرة البصرية الأساسية.
- انتقال الإشارات العصبية إلى منطقة فيرنكيه لتحليل اللغة وفهم الكلمات، وبناء رأي أو رد.
- تنتقل الإشارات العصبية المحملة بهذه المعلومات إلى منطقة بروكا التي تترجم المعنى إلى كلمات.
- ومن هناك تنتقل الإشارات العصبية إلى القشرة الحركية الأساسية التي ترسل الإشارات العصبية إلى عضلات الفم والحنجرة للتحدث.
إذن، هل الشق الأيسر من الدماغ وحده مسؤول عن اللغة؟
تذَكر أنه لا يوجد تخصيص جانبي كامل للدماغ؛ إذ توجد مراكز مسؤولة عن اللغة في الجانب الأيمن من المخ أيضًا.
غير أن هذه المراكز تحلل العناصر غير المنطوقة من اللغة وتتعامل معها، مثل: إيماءات الوجه، وإشارات اليدين، والمشاعر المصاحبة للكلام.
ويؤدي تضرر الجانب الأيمن من المخ إلى فقدان القدرة على تمييز المعنى وراء الكلام، إذ يصبح الكلام الهزلي والجاد سواء.
وفي بعض الحالات توجد المراكز المسؤولة عن اللغة في الشق الأيمن من المخ، ووُجد أن هذه الحالات تستخدم اليد اليسرى للكتابة -غالبًا.
نصف دماغ أفضل من دماغٍ كاملٍ أحيانًا!
ربما تبدو عملية إزالة شق مخٍ كامل ضربًا من الخيال، لكنها حقيقة، ويستدعي إجراءها بعضُ حالات الصرع والتشنجات العنيفة التي لا تستجيب لأي علاج.
يُستأصل شق الدماغ المصاب بالخلل، ويُترك مكانه فارغًا ليملأه السائل النخاعي…
والمفاجأة!
إن المرضى الذين يخضعون لهذه العملية يتمتعون بحياة أفضل، وتقل التشنجات.
ولكن يؤثر فيهم فقدان شق كامل من أمخاخهم في نواحٍ عدة، مثل:
- فقدان التحكم في اليد في الجهة المعاكسة لشق الدماغ المستأصل.
- تحكم بسيط في الذراع.
- فقدان الرؤية في الجهة المعاكسة.
- اضطراب مهارة إدراك اللغة إن كانت مراكز اللغة في الشق المستأصل.
لكن إن أُجريت العملية في سنٍ مبكرة -أقل من ثلاثة أشهر-؛ يتأقلم شق العقل المتبقى ويتطور لأداء وظائف فصي الدماغ معًا بكفاءة.
هل أنت أيمن العقل أم أعسره؟
الإجابة هي أنك لا أيمن العقل ولا أعسر العقل، وأن اختبار الدماغ الأيمن والأيسر لا أساس له من الصحة!
ظهرت نظرية تصنيف البشر حسب شق الدماغ المهيمن لديهم بسبب نظرية التخصيص الجانبي للدماغ…
إذ اعتقد الكثيرون أن الشق الأيمن من المخ مسؤول عن الجانب الإبداعي والابتكاري، أما الأيسر فهو مسؤول عن التحليل والتفكير المنطقي.
ولعلك الآن تعرف أن وظائف شقي الدماغ تتوزع على مراكز عدة في الشقين ويتصلان ببعضهما بالجسم الثفني.
إذن، في الحقيقة لا يمكنك أن تكون أيمن العقل أو أعسره إلا باستئصال شقٍ كاملٍ منهما.
وهذا ما حدث مع رحاب التي أصبحت يمينية العقل بعد استئصال شق دماغها الأيسر…
خضعت رحاب بعد العملية لفترة إعادة تأهيل؛ لمساعدة شق الدماغ الأيمن على التطور لأداء وظائف فصي المخ معًا.
وقبل أن تنتهي فترة إعادة التأهيل كانت رحاب قد تعافت تمامًا من نوبات التشنج، وصارت لها حياتها الطبيعية.
التحقت رحاب بالمدرسة وعاشت حياتها كأي طفلٍ جميلٍ في ربيع عمره.